وجوه : الأوّل : أنّ معنى قوله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا ،) أي : اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة. فقال : ثم توبوا إليه ؛ لأنّ الداعي إلى التوبة والمحرك عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة فالاستغفار مطلوب بالذات والتوبة مطلوبة لكونها من مهمات الاستغفار ، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب ، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الثاني : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا ، أي : ارجعوا إليه بالطاعة. الثالث : الاستغفار طلب من الله تعالى لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أنّ المؤمن يجب عليه أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة ؛ لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه ، والاستعانة بفضل الله تعالى تقدم على الاستعانة بسعي النفس ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يرتب عليها من الآثار المطلوبة ، ومن المعلوم أنّ المطالب محصورة في نوعين ؛ لأنه إنما يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المرادة من قوله تعالى : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي : بطيب عيش وسعة رزق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الموت. فإن قيل : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١). وقال أيضا : «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (٢). وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف ، ٣٣] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدّة والبلية ، ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟
أجيب : بأن المشتغل بعبادة الله ومحبته مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكلما كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتمّ كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه ، وأمّا من كان مشتغلا بحب غير الله كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، وكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا. ولذلك قال تعالى في صفة المشتغلين بخدمته (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل ، ٩٧]. وقيل : المراد بالمتاع الحسن : عدم العذاب بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا. وسمى سبحانه وتعالى منافع الدنيا بالمتاع لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه تعالى على كونها منقضية بقوله تعالى : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية. وأمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها تعالى بقوله تعالى : (وَيُؤْتِ) أي : في الآخرة (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) أي : في العمل (فَضْلَهُ) أي : جزاءه ؛ لأنّ مراتب السعادات في الآخرة مختلفة ؛ لأنها متقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير
__________________
(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٥٦ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٢٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١١٣.
(٢) أخرجه بنحوه الترمذي في الزهد باب ٥٧ ، وابن ماجه في الفتن باب ٢٣ ، والدارمي في الرقاق باب ٦٧ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٨٠ ، ١٨٥.