يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ، ٥٨]» (١).
تنبيه : قوله تعالى : (وَما تِلْكَ) إشارة إلى العصا وقوله تعالى : (بِيَمِينِكَ) إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمهالله تعالى الأولى : أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهانا ساطعا ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة ، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيوانا صار الجسم الكثيف نورانيا لطيفا ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها : أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعبانا فبلغ سحر السحرة فأي عجب لو صار القلب ثعبانا فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها : أن العصا كانت في يمين موسى فبسبب بركته انقلبت ثعبانا وبرهانا وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.
ولما سأل تعالى موسى عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال.
أوّلها : (قالَ هِيَ عَصايَ) وقد تم الجواب بذلك إلا أنه ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها : قوله : (أَتَوَكَّؤُا) أي : أعتمد (عَلَيْها) إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها : قوله : (وَأَهُشُ) أي : أخبط ورق الشجر (بِها) ليسقط (عَلى غَنَمِي) لتأكله فبدأ أولا بمصالح نفسه في قوله : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) ثم بمصالح رعيته في قوله : (أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وكذلك في القيامة يقول : نفسي نفسي ومحمد صلىاللهعليهوسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال ، ٣٣] «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» (٢) فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضا بأمّته فيقول : «أمّتي أمّتي» رابعها قوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع (أُخْرى) كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل : انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل : اسم العصا نبعة وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل : زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر
__________________
(١) أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار ١ / ١٦٠ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٣ / ٢٤٥ ، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث ٣٦٧ ، ٥٥٢.
(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٢٥٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٨ ، ٣ / ٩٤.