وتصير شعبتاها دلوا ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه (قالَ) له (أَلْقِها) أي : أنبذها (يا مُوسى) (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) أي : ثعبان عظيم (تَسْعى) أي : تمشي على بطنها سريعا وهنا نكت خفية.
إحداها : أنه لما قال : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى.
ثانيها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فقال أوّلا : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) إشارة إلى ترك الهرب ، ثم قال : (أَلْقِها) وهو إشارة إلى ترك الطلب ، كأنه تعالى قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلا بنفسك طالبا لحظك فلا تكن خالصا لمعرفتي ، فكن تاركا للهرب والطلب تكن خالصا لي.
ثالثها : أنّ موسى مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟ فإن قيل : كيف قال هنا : (حَيَّةٌ) وفي موضع آخر (جَانٌ) [النمل ، ١٠] وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر : (ثُعْبانٌ) [الأعراف ، ١٠٧] وهو أكبر ما يكون من الحيات؟ أجيب : بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مرّ والجان الدقيق وفي ذلك وجهان : أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعبانا فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) [النمل ، ١٠] قال وهب : لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعا صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقا وعرفا يهتز وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفا عظيما فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف.
(قالَ) تعالى له (خُذْها) أي : بيمينك (وَلا تَخَفْ) وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له : (خُذْها) لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده ، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك : أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا قال : لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت.
تنبيه : في نصب سيرتها أوجه :