عظما ، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا ، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر ؛ قال : فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ، وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول ، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ)(١).
فذلك قوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبناه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي : من تلك الظلمات بتلك الكلمات (وَكَذلِكَ) أي : وكما نجيناه (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين قال الرازي في اللوامع : وشرط كل من يلتجىء إلى الله أن يبدأ بالتوحيد ثم بعده بالتسبيح والثناء ، ثم بالاعتراف والاستغفار والاعتذار ، وهذا شرط كل داع أه.
وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» (٢) ، وعن الحسن ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم على أنّ أصله ننجي ، فحذفت النون الثانية كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون ، وهي إن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة الذي لمعنى وقيل : هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وهو النجاء ، وقرأ الباقون بنونين الثانية مخفاة عند الجيم.
تنبيه : اختلفوا في متى كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسّلام فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس كانت بعد أن أخرجه الله تعالى من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في سورة والصافات : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) [الصافات ، ١٤٥] ، ثم ذكر بعده : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات ، ١٤٧] ، وقال آخرون : إنها كانت من قبل بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات ، ١٣٩ ـ ١٤٤]
القصة التاسعة : قصة زكريا عليه الصلاة والسّلام المذكورة في قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا) أي : واذكر زكريا ويبدل منه (إِذْ نادى رَبَّهُ) نداء الحبيب القريب فقال : (رَبِ) بإسقاط أداة البعد (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي : وحيدا من غير ولد ذكر يرث ما آتيتني من الحكمة (وَأَنْتَ) أي : والحال أنك (خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : الباقي بعد فناء خلقك ، وكثيرا ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيدا آخرين ، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحب ، فتهبني ولدا تمنّ عليّ به.
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بعظمتنا وإن كان في حدّ من السن لا حراك به معه ، وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها فكيف وقد جاوزت سن اليأس ، ولذلك عبر بما يدل على العظمة ، فقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) ولدا وارثا نبيا حكيما عظيما (وَأَصْلَحْنا لَهُ) خاصة من بين أهل ذلك الزمان (زَوْجَهُ) أي : جعلناها صالحة لكل خير خالصة له ، فأصلحناها للولادة بعد عقمها ، وأصلحناها لزكريا بعد أن كانت سريعة الغضب سيئة الخلق ، فأصلحناها له ورزقناها حسن الخلق
__________________
(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٣ / ١٩٣.
(٢) أخرجه الترمذي حديث ٣٥٠٠ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٥٠٥.