(إِنَّهُمْ) أي : الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة وقيل : زكريا وزوجه ويحيى (كانُوا) أي : جبلة وطبعا (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : الطاعات يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر ، ودل على عظيم أفعالهم بقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا) مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا (رَغَباً) أي : طمعا في رحمتنا (وَرَهَباً) أي : خوفا من عذابنا (وَكانُوا) أي : جبلة وطبعا (لَنا) خاصة (خاشِعِينَ) أي : خائفين خوفا عظيما يحملهم على الخضوع والانكسار ، قال مجاهد : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب ، وقيل : متواضعين ، وسئل الأعمش عن هذه الآية فقال : أما إني سألت إبراهيم فقال : ألا تدري؟ قلت : أفدني ، قال : بينه وبين الله إذا أرخى ستره عليه وأغلق بابه فلير الله منه خيرا لعلك ترى أنه يأكل خشنا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه.
القصة العاشرة : قصة مريم وابنها عليهماالسلام المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّتِي) أي : واذكر مريم التي (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : حفظته من الحلال والحرام حفظا يحق له أن يذكر ويتحدّث به كما قال تعالى حكاية عنها ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم ، ٢٠] ؛ لأنّ ذلك غاية في العفة والصيانة والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة مع ما جمعت مع ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة والصحيح أنها ليست بنبية (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي : أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تعالى تشريفا لعيسى كبيت الله وناقة الله.
ثم بيّن تعالى ما خص مريم وعيسى من الآيات فقال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي : قصتهما أو حالهما ، ولذلك وحد قوله تعالى : (آيَةً لِلْعالَمِينَ) من الجنّ والإنس والملائكة ، وإنّ تأمّل حالهما تحقق كمال قدرة الله تعالى فإن قيل : هلا قال تعالى آيتين كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء ، ١٢] أجيب : بما تقدّم وبأن الآية كانت فيهما واحدة وهي أنها أتت به من غير فحل.
وههنا آخر القصص. ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء عليهمالسلام أنهم كلهم متفقون على التوحيد الذي هو أصل الدين قال تعالى :
(إِنَّ هذِهِ) أي : ملة الإسلام (أُمَّتُكُمْ) أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها (أُمَّةً) قال البغوي وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد ا. ه فجعل الشريعة أمّة لاجتماع أهلها على مقصد واحد. أه ثم أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالى : (واحِدَةً) فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي : المحسن إليكم لا غيري في كل زمان فإني لا أتغير على طول الدهر ، ولا يشغلني شأن عن شأن (فَاعْبُدُونِ) دون غيري فإنه لا كفء لي ، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى.
(وَتَقَطَّعُوا) أي : بعض المخاطبين (أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى ؛ قال الكلبي : فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض.
تنبيه : الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ، ويقبح عليهم فعلهم عندهم ، ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى ، والمعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء