والمعنى : أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر (١) :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة |
|
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا |
أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا ، ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي : اطمأنوا إليه وخشعوا ، إذ الإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ، ويتعدّى بإلى وباللام فإذا قلت : أخبت فلان إلى كذا ، فمعناه : اطمأن إليه ، وإذا قلت : أخبت له فمعناه : خشع وخضع له ، فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة إلى جميع عمل الجوارح. وقوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا) إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله تعالى ، وإن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع (أُولئِكَ) أي : الذين هذه صفتهم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فأخبر تعالى عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ذكر فيهما مثالا مطابقا بقوله تعالى : (مَثَلُ) أي : صفة (الْفَرِيقَيْنِ) أي : الكفار والمؤمنين (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هذا مثل الكافر شبه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله ، وبالأصم لتصامه عن استماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) هذا مثل المؤمن شبه بالبصير والسميع ؛ لأنّ أمره بالضدّ من الكافر فيكون كل منهما مشبها باثنين باعتبار وصفين ، أو يشبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضدّيهما على أن تكون الواو في الأصم وفي السميع لعطف الصفة على الصفة ، بخلافه على التشبيه الأوّل فإنه لعطف الموصوف على الموصوف ، ويعبر عنه بعطف الذات على الذات (هَلْ يَسْتَوِيانِ) أي : هل يستوي الفريقان (مَثَلاً) أي : تشبيها لا يستويان ، ويصح أن يكون مثلا صفة لمصدر محذوف ، أي : استواء مثلا ، وأن يكون حالا من فاعل يستويان وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فيه إدغام التاء في الأصل في الذال ، أي : تتعظون بضرب الأمثال ، والتأمّل فيها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد ، وقد جرت عادة الله تعالى بأنه إذا أورد على الكفار أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكدا لتلك الدلائل. وفي هذه السورة ذكر أنواعا من القصص :
القصة الأولى : قصة نوح عليهالسلام المذكورة في قوله تعالى :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) وقوله : (إِنِّي لَكُمْ) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة ، أي : بأني والباقون بكسرها على إرادة القول (نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : بين النذارة أخوّف من العقاب لمن خالف أمر الله تعالى.
__________________
(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي أسماء بن الضريبة في لسان العرب (جرم) ، وله أو لعطية بن عفيف في خزانة الأدب ١٠ / ٢٨٣ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٣٦ ، ولرجل من فزارة في الكتاب ٣ / ١٣٨ ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٦٢ ، والاشتقاق ص ١٩٠ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٥ ، وجواهر الأدب ص ٣٥٥ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٥٠ ، والمقتضب ٢ / ٣٥٢.