أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس ، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) أي : من ذلك الذي خلقناه (ما نَشاءُ) إتمامه (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها ، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء ، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته ، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام ، أو تحرقه فيضمحل.
المرتبة الخامسة : قوله تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) وهو معطوف على نبين ، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا ، والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر ، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم.
المرتبة السادسة : قوله تعالى : (ثُمَ) أي : نمدّ أجلكم (لِتَبْلُغُوا) بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة (أَشُدَّكُمْ) أي : الكمال والقوّة ، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور.
المرتبة السابعة : قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي : عند بلوغ الأشدّ أو قبله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لو لا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط (إِلى أَرْذَلِ) أي : أخس (الْعُمُرِ) وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) كان أوتيه (شَيْئاً) أي : ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك : من هذا؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه.
فإن قيل : هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين ، ٥ ـ ٦] أجيب : بأن معنى قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) هو دلالة على الذمّ ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ،) لكن قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة ، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعا أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات ، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج ، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلا آخر على البعث مشاهدا بقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي : يابسة ساكنة سكون الميت (فَإِذا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من القدرة (عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي : تحركت وتأهلت لإخراج النبات (وَرَبَتْ) أي : ارتفعت ، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين ، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء ، وقوله تعالى : (وَأَنْبَتَتْ) مجاز ؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعا أي : أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي : صنف (بَهِيجٍ) أي : حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها ، قال الجلال المحلي : من زائدة ، ولم أر من ذكر ذلك من المفسرين.
تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال ، فكذلك الإنسان المؤمن