وقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) بدل من إني لكم أو مفعول مبين (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أي : إن عبدتم غيره (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم موجع في الدنيا أو الآخرة. قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وقال مقاتل : وهو ابن مائة سنة. وقيل : وهو ابن خمسين سنة. وقيل : وهو ابن مائتين وخمسين سنة. ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة.
فكان عمره ألف سنة وأربعمائة وخمسين ولما حكى تعالى عن نوح عليهالسلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوّته بثلاثة أنواع من الشبهات بقوله تعالى : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وهم الأشراف (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) هذه الشبهة الأولى ، أي : إنك بشر مثلنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوّة ووجوب الطاعة ، وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلا منهم ؛ لأنّ الله تعالى إذا اصطفى عبدا من عباده وأكرمه بنبوّته ورسالته وجب على من أرسله إليهم اتباعه. الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله تعالى : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي : أسافلنا كالحاكة وأهل الصنائع الخسيسة ، وهو جمع أرذل بفتح الهمزة كقوله تعالى : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام ، ١٢٣] وقوله صلىاللهعليهوسلم : «أحاسنكم أخلاقا» (١) أو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها ، فهو على الأوّل جمع مفرد وعلى الثاني جمع جمع ، ثم قالوا : ولو كنت صادقا لاتبعك الأكابر من الناس والأشراف منهم ، وإنما قالوا ذلك جهلا منهم أيضا ؛ لأنّ الرفعة بالدين واتباع الرسول لا بالمناصب العالية والمال (بادِيَ الرَّأْيِ) أي : اتبعوك في أوّل الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ولو تفكروا ما اتبعوك. ونصبه على الظرف ، أي : وقت حدوث أوّل رأيهم. وقرأ أبو عمرو بادئ بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بياء مفتوحة ، وأبدل السوسي همزة الرأي ألفا وقفا ووصلا. وأمّا حمزة فأبدلها وقفا لا وصلا. الشبهة الثالثة : ما ذكره الله تعالى عنهم في قوله تعالى : (وَما نَرى لَكُمْ) أي : لك ولمن اتبعك (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي : بالمال والشرف والجاه تستحقون به الاتباع منا وهذا أيضا جهل منهم ؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة. وقولهم : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) خطاب لنوح عليهالسلام في دعوى الرّسالة وأدرجوا قومه معه في الخطاب. وقيل : خاطبوه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. وقيل : كذبوه في دعوى النبوّة وكذبوا قومه في دعوى العلم بصدقه ، فغلب المخاطب على الغائبين.
ولما ذكروا هذه الشبهة لنوح عليهالسلام. (قالَ) لهم (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أي : نبوّة ورسالة (مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً) أي : نبوّة ورسالة (مِنْ عِنْدِهِ) من فضله وإحسانه (فَعُمِّيَتْ) أي : خفيت والتبست (عَلَيْكُمْ) ووحد الضمير إمّا لأنّ البينة في نفسها هي الرحمة وإمّا لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم العين وتشديد الميم والباقون بفتح العين وتخفيف الميم (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : أنكرهكم على قبولها (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها لا نقدر على ذلك. قال قتادة : والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ولكنه لا يملك ذلك ، واتفق القراء على ضم النون من أنلزمكموها لاتصالها باللام
__________________
(١) لفظ الحديث بتمامه : «إنّ خياركم أحاسنكم أخلاقا» أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠٣٥ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٢١ ، والترمذي في البر حديث ١٩٧٥.