كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر ، ومن مشهد إلى مشهد ، مجموعين بالدعوة ، خاشعين بالهيبة ، خائفين من السطوة ، راجين للمغفرة ، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر ، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم ، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتنائي دارهم ممن كان موجودا في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفخ في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار ترابا وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير ، قال الزمخشريّ : وعن أبي حنيفة رحمهالله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) أي : الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه.
واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة ، والمشعر الحرام ، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي : يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحايا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] وقوله تعالى (فَكُلُوا مِنْها) أي : لحومها أمر إباحة ، وذلك أنّ الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا فأمر الله تعالى بمخالفتهم ، واتفق العلماء على أنّ الهدي إذا كان تطوّعا يجوز للمهتدي أن يأكل منه ، وكذلك أضحية التطوّع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع «فأتى عليّ ببدن من اليمن وساق رسول الله صلىاللهعليهوسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثا وستين بدنة ونحر عليّ ما غبر أي ما بقي وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة أي بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» (١) أخرجه مسلم واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل شيئا منه؟ قال الشافعي رضيّ الله عنه لا يأكل منه شيئا وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك يأكل من
__________________
(١) أخرجه أبو داود في المناسك باب ٥٦ ، وابن ماجه في المناسك باب ٨٤ ، والدارمي في المناسك باب ٣٤.