الزنادقة وصنف فيه كتابا ، وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، فقد روى البخاري في صحيحه : «أنه صلىاللهعليهوسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها ، وسجد المسلمون والكفار والإنس والجن» (١) ، وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه : أحدها : أنّ من جوّز على النبيّ صلىاللهعليهوسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأنّ من المعلوم بالضرورة أن النبيّ كان معظم سعيه في نفي الأوثان ، ثانيها : قوله تعالى : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) [الحج ، ٥٢] ، وإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول صلىاللهعليهوسلم أقوى من نسخ هذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى ، ثالثها : وهو أقوى الوجوه لو جوّزنا ذلك ارتفع الإيقان عن شرعه ولجوّزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك فيبطل قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ، ٦٧] ، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
وزاد الرازي أدلة أخرى على ذلك ثم قال : وقد عرفنا أنّ هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أنّ جمعا من المفسرين ذكروها وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة ، انتهى. وهذا هو الذي يطمئن إليه القلب وإن أطنب ابن حجر العسقلاني في صحتها ، ثم قال : وحينئذ فيتعين تأويل ما وقع فيها مما ينكر ، وهو قوله : ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق الخ ، انتهى.
وعلى القول بها قد سلك العلماء في ذلك مسالك أحسنها أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ، ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها ، وقال البيضاوي : بعد أن ذكر بعض هذه القصة وهو مردود عند المحققين ، وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، انتهى. قال ابن الأثير : والغرانيق هنا الأصنام ، وهي في الأصل للذكور من طير الماء واحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه قال : وكانوا يزعمون أنّ الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التى تعلو إلى السماء وترتفع ، وقيل : تمنى أي : قرأ ، كقول حسان في حق عثمان بن عفان (٢) :
تمنى كتاب الله أوّل ليلة |
|
تمنى داود الزبور على رسل |
أي : على تأن وتمهل. ولما ذكر سبحانه وتعالى ما حكم به من تمكين الشيطان من هذا الإلقاء ذكر العلة في ذلك بقوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : في المتلو أو المحدّث به من تلك الشبهة في قلوب أوليائه على التفسير الأوّل ، وعلى الثاني وغيره يؤوّل بما يناسبه (فِتْنَةً) أي : اختبارا وامتحانا (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك ونفاق (وَالْقاسِيَةِ) أي : الجافية (قُلُوبِهِمْ) عن قول الحق وهم المشركون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي : الواضعين لأقوالهم وأفعالهم في
__________________
(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٢٩ ، وأبو داود في السجود باب ٣ ، والنسائي في الافتتاح باب ٤٩ ، والدارمي في الصلاة باب ١٦٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٧٧ ، و ٤٤٣ ، و ٤٦٢ ، ٣ / ٤٢٠ ، ٤ / ٢١٥ ، ٦ / ٤٠٠.
(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (مني) ، وتاج العروس (منا).