تنبيه : سمي الشىء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء ، ٥٨] ، وقال تعالى : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) [الأنفال ، ٢٧] ، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير : لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر ، والباقون بالألف على الجمع.
الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) التي وصفوا بالخشوع فيها (يُحافِظُونَ) أي : يواظبون عليها ولا يتركون شيئا من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم ، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل : كيف كرّر الصلاة أولا وآخرا؟ أجيب : بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها ، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها ، وأيضا فقد وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت وجمعت آخرا على غير قراءة حمزة والكسائي ، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع ، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة ، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء ، والوتر والضحى وصلاة التسبيح ، وصلاة الحاجة ، وغيرها من النوافل.
ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى :
(أُولئِكَ) أي : البالغون من الإحسان أعلى مكان (هُمُ الْوارِثُونَ) أي : المستحقون لهذا الوصف ، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما منكم من أحد إلا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله» (١) وقال مجاهد : لكل واحد منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار ، وقال بعض المفسرين : معنى الوراثة هو أن يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) وهو أعلى الجنة ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» (٢) اللهمّ بجاه محمد صلىاللهعليهوسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي : لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى : (فِيها ،) على تأنيث الجنة ، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر ، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل خلالها المسك الإذفر ـ وفي رواية : ولبنة من مسك مذرى ـ وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان» ، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٤١.
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٣ ، وابن ماجه في صفة الجنة حديث ٢٥٢٩.