بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (١) ، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة ، والجنة مخلوقة الآن ؛ قال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ، ١٣٣] ، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعا :
الأول : الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة ، وهي تسع مراتب.
الأولى : قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي : آدم (مِنْ سُلالَةٍ) هي من سللت الشيء من الشيء أي : استخرجته منه ، وهو خلاصته ، وقال ابن عباس : السلالة صفرة الماء ، وقوله تعالى : (مِنْ طِينٍ) متعلق بسلالة ، وقيل : المراد بالإنسان هذا النوع ؛ والسلالة قال مجاهد : من بني آدم ، وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر ، والعرب تسمي النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ؛ لأنهما مسلولان منه.
المرتبة الثانية : قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : نسله ، فحذف المضاف (نُطْفَةً) أي : منيا من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : مستقر حصين هو الرحم.
تنبيه : مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.
المرتبة الثالثة : قوله تعالى : (ثُمَ) أي : بعد تراخ في الزمان ، وعلوّ في المرتبة والعظمة (خَلَقْنَا) أي : بما لنا من العظمة (النُّطْفَةَ) أي : البيضاء جدا (عَلَقَةً) حمراء دما غليظا. شديد الحمرة جامدا غليظا.
المرتبة الرابعة : قوله تعالى : (فَخَلَقْنَا) أي : بما لنا من القوة والقدرة العظيمة (الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي : قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.
المرتبة الخامسة : قوله تعالى : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) أي : بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة (عِظاماً) من رأس ورجلين وما بينهما.
المرتبة السادسة : قوله تعالى : (فَكَسَوْنَا) بما لنا من قوة الاختراع تلك (الْعِظامَ لَحْماً) بما ولدنا منها ترجيعا لحالها قبل كونها عظاما فسترنا تلك العظام ، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر : عظاما ، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع ، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع ؛ قال الجلال المحلي : وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.
المرتبة السابعة : قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ) أي : هذا المحدث عنه بعظمتنا (خَلْقاً آخَرَ) أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا وناطقا ، وكان أبكم وسميعا ، وكان أصم وبصيرا وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح ، وثم لما بين الخلقين من التفاوت ؛ قال الزمخشري : وقد احتج به أبو حنيفة رحمهالله فيمن غصب
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٦٩ ، ١٢٨ ١٣٤.