[المؤمنون ، ٥٠] ، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قال للمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ،) ودل سبحانه وتعالى على أن الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) فرضا ونفلا سرا وجهرا غير خائفين من أحد غير الله تعالى ، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى : (إِنِّي بِما) أي : بكل شيء (تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم فأجازيكم عليه ، وقرأ : (وَإِنَّ هذِهِ) بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف ، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أن هذه أي : ملة الإسلام ، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون (أُمَّتُكُمْ) أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أن تكونوا عليها حال كونها (أُمَّةً واحِدَةً) لا شتات فيها أصلا ، فما دامت موحدة ، فهي مرضية (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي : المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي ، فمن وحدني نجا ، ومن أشرك معي غيري هلك (فَاتَّقُونِ) أي : فاحذرون.
(فَتَقَطَّعُوا) أي : الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم ؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما ، فعلم قطعا أن الضمير للأمم ، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحدا أهم فقدم ، وقوله : (أَمْرَهُمْ) أي : دينهم بعد أن كان مجتمعا متصلا (بَيْنَهُمْ) وقوله تعالى : (زُبُراً) حال من فاعل تقطعوا أي : أحزابا متخالفين ، فصاروا فرقا كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة ، وقيل : معنى زبرا كتبا أي : تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب (كُلُّ حِزْبٍ) أي : فرقة من المتحزبين (بِما لَدَيْهِمْ) أي : عندهم من ضلال وهدى ، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها (فَرِحُونَ) أي : مسرورون فضلا عن أنهم راضون.
وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم أي : اترك كفار مكة (فِي غَمْرَتِهِمْ) أي : ضلالتهم ، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها (حَتَّى حِينٍ) أي : إلى أن يقتلوا أو يموتوا ، سلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره.
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيها لمن سبقت له السعادة ، وكتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ) أي : لضعف عقولهم ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها (أَنَّما نُمِدُّهُمْ) أي : نعطيهم ونجعله مددا لهم (بِهِ مِنْ مالٍ) نيسره لهم (وَبَنِينَ) نمتعهم بهم.
ثم أخبر عن أن بقوله تعالى : (نُسارِعُ) أي : نجعل (لَهُمْ) أي : به (فِي الْخَيْراتِ) لا نفعل ذلك (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم في غاية البعد عن الخيرات (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف ، ١٨٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ، ٥٥] ، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أن أبسط إليه الدنيا ، وهو أبعد له مني ، ويحزن أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني ، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه ، فقال عمر : اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة والسّلام كان يحب أن يصيب مالا لينفقه في سبيلك ، فزويت ذلك عنه ، ثم إن أبا بكر كان يحب