رابعها : أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه ، وهو المراد من قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ) أي : بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن (بِهِ) أي : رسولهم (جِنَّةٌ) أي : جنون فلا يوثق به.
ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم ، وإنه أكملهم خلقا وأشرفهم خلقا ، وأظهرهم شيما ، وأعظمهم همما ، وأرجحهم عقلا وأمتنهم رأيا ، وأرضاهم قولا وأصوبهم فعلا أضرب عنها وقال تعالى : (بَلْ) أي : لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى ، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام ، وقال الجلال المحلي : الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به ، وبل للانتقال (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : والحال أن أكثرهم (لِلْحَقِّ كارِهُونَ) متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عنادا ، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر ؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلا وتقليدا وخوفا من أن يقال صبأ ، وبعضهم يتبعه توفيقا من الله تعالى وتأييدا.
ثم بين تعالى أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) أي : القرآن (أَهْواءَهُمْ) بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ) على علوها وإحكامها (وَالْأَرْضُ) على كثافتها وانتظامها (وَمَنْ فِيهِنَ) على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي : خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ، ٢٢] ، (بَلْ أَتَيْناهُمْ) بعظمتنا (بِذِكْرِهِمْ) أي : بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم ، وقيل : بالذكر الذي تمنوه بقولهم : لو أن عندنا ذكرا من الأولين (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي : الذي هو شرفهم (مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه.
ثم بين تعالى أن النبي صلىاللهعليهوسلم لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سببا لنفرتهم بقوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) أي : على ما جئتم به (خَرْجاً) أي : أجرا ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف ، والباقون بسكون الراء ، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى : (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي : رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى (خَيْرٌ) لسعته ودوامه ، ففيه مندوحة لك عن عطائهم ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء : الخرج ما تبرعت به ، والخراج ما لزمك أداؤه ؛ قال الزمخشري : والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك : خراج القرية ، وخرج الكردة أي : الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجا فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، وقوله تعالى : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقرير لخيرية خراجه.
ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له ، كما تشهد له به العقول الصحيحة ، فمن سلكه أوصله إلى الغرض ، فحاز كل شرف.
تنبيه : قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين