الدنيا وطلب الآخرة ، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك. (يَهْدِيهِمْ) أي : يرشدهم. (رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي : بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة ، أو لما يريدونه في الجنة ، أو لإدراك الحقائق ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم» (١). وقال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة ، فيقول : أنا عملك. فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة ، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة ، فيقول : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار» (٢). ومفهوم ترتّب الهداية على الإيمان ، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح ، لكن دل منطوق قوله جل وعلا : (بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩]. على استقلال الإيمان بالسببية ، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف ، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم ، وهي أربعة الأولى : قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين ، والأنهار تجري من بين أيديهم ، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم ، ونظيره قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] فهي ما كانت قاعدة عليه ، ولكن المعنى : بين يديك ، وكذا قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف ، ٥١] ، أي : بين يدي فكذا هنا.
الثانية قوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها) قال بعض المفسرين : ، أي : طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا : (سُبْحانَكَ) أي : ننزهك من كل سوء ونقيصة. (اللهُمَ) أي : يا الله ، فإذا ما طلبوا بين أيديهم على موائد ، كل مائدة ميل في ميل ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا ، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى ، فذلك قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.) وأن المراد بقوله (سُبْحانَكَ اللهُمَ) اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله ، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى ، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون. قالوا : فما بال الطعام؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» (٣) ، أي : يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقا.
الثالثة : قوله تعالى : (وَتَحِيَّتُهُمْ) فيما بينهم وتحية الملائكة لهم (فِيها) أي : الجنة (سَلامٌ) وتأتيهم الملائكة أيضا من عند ربهم بالسلام. قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤]. وقال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].
الرابعة : قوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي : وآخر دعائهم. (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : أن يقولوا ذلك ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، وقد ذكرنا أنّ بعض المفسرين حمل التسبيح
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٠٣ ، ٣ / ٤٤٩ ، ٧ / ٣٢٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٧٢ ، والقرطبي في تفسيره ١٣ / ٣٦٢ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١٠ / ١٥.
(٢) أخرجه الطبري في تفسيره ١١ / ٨٨.
(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٣٥ ، والدارمي في الرقاق حديث ٢٧٢٧.