(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) قال ابن عباس : لا تتكبروا عليّ ، وقيل لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ ، أي : لا تمتنعوا عن الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : منقادين خاضعين فهو من الاستسلام ، أو مؤمنين فهو من الإسلام ، فإن قيل : لم قدم سليمان اسمه على البسملة؟ أجيب : بأنه لم يقع منه ذلك بل ابتدأ الكتاب بالبسملة وإنما كتب اسمه عنوانا بعد ختمه لأنّ بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت : (إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : إنّ الكتاب ، فالتقديم واقع في حكاية الحال ، واعلم أن قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشتمل على إثبات الصانع وإثبات كونه عالما قادرا حيا مريدا حكيما رحيما قال الطيبي : وقال القاضي : هذا كلام في غاية الوجازة مع إثبات كمال الصانع وإثبات كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته صريحا أو التزاما ، والنهي عن الترفع الذي هو أمّ الرذائل ، والأمر بالإسلام الذي هو جامع لأمّهات الفضائل.
ولما سكتوا عن الجواب. (قالَتْ) لهم (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها (أَفْتُونِي) أي : تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله (فِي أَمْرِي) هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعا ، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واوا ، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.
ثم عللت أمرها لهم بقولها (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي : فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أفادت بذلك أن شأنها دائما مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير ، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها.
ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن. (قالُوا) مائلين إلى الحرب (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي : بالمال والرجال (وَأُولُوا) أي : أصحاب (بَأْسٍ) عزم في الحرب (شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ) أي : في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول (إِلَيْكِ فَانْظُرِي) أي : بسبب أنه لا نزاع معك (ما ذا تَأْمُرِينَ) فإنا نطيعك ونتبع أمرك.
ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. (قالَتْ) جوابا لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها (إِنَّ الْمُلُوكَ) أي : مطلقا فكيف بهذا النافذ الأمر ، العظيم القدر (إِذا دَخَلُوا) عنوة بالقهر (قَرْيَةً أَفْسَدُوها) أي : بالنهب والتخريب (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر ، ثم أكدت هذا المعنى بقولها (وَكَذلِكَ) أي : ومثل هذا الفعل العظيم الشأن (يَفْعَلُونَ) أي : هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.
تنبيه : هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر ، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقا لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب ، وهي معترضة بين قولها.
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) أي : إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) وهي العطية على طريق الملاطفة ، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية