موسى لقول موسى له : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء ، ١٠٢] ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلما له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله ، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحدا بنى بالآجر غير فرعون (فَأَوْقِدْ لِي) وأضاف الإيقاد إليه إعلاما بأنه لا بدّ منه (يا هامانُ) وهو وزيره (عَلَى الطِّينِ) أي : المتخذ لبنا ليصير آجرا ، ثم تسبب عن الإيقاد قوله (فَاجْعَلْ لِي) أي : منه (صَرْحاً) أي : قصرا عاليا ، وقيل : منارة ، وقال الزجاج : هو كل بناء متسع مرتفع (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) أي : أتكلف الطلوع (إِلى إِلهِ مُوسى) أي : الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهما لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت.
قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دما فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليهالسلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكا بقوله مؤكدا لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليهالسلام (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي : موسى عليهالسلام (مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه العريقة في العدوان.
(وَاسْتَكْبَرَ) أي : أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه (هُوَ) بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل (وَجُنُودُهُ) بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل (فِي الْأَرْضِ) أي : أرض مصر قال البقاعي : ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بغير استحقاق قال البقاعي : والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلىاللهعليهوسلم فيما حكاه عن ربه : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» (١)(وَظَنُّوا) أي : فرعون وجنوده ظنا بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع (أَنَّهُمْ إِلَيْنا) أي : إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب (لا يُرْجَعُونَ) بالنشور ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم.
ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى : (فَنَبَذْناهُمْ) أي : طرحناهم (فِي الْيَمِ) أي : البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده شامخات في البحر ونحو ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) [المرسلات ، ٢٧] وقوله تعالى (وَحُمِلَتِ
__________________
(١) أخرجه أبو داود في اللباس حديث ٤٠٩٠ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٧٤.