الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤].
ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى : (فَانْظُرْ) أي : أيها المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الظَّالِمِينَ) حيث صاروا إلى الهلاك فحذّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [يونس ، ١٠٩].
ولما كان : «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (١) قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : في الدنيا (أَئِمَّةً) أي : قدوة للضلال بالحمل على الإضلال ، وقيل بالتسمية كقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] أو بمنع الألطاف الصارفة عنه (يَدْعُونَ) أي : يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم (إِلَى النَّارِ) أي : إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات : جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله.
ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : الذي هو يوم التغابن (لا يُنْصَرُونَ) أي : لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم.
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي : طردا عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم ، وإنما قال الله تعالى : (الدُّنْيا) ولم يقل الحياة ، قال البقاعي : لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ) أي : خاصة ومن شاكلهم (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي : المبعدين أيضا المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم : قبح الله العدو أبعده عن كل خير ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين ، قال البقاعي : فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمنا وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى ، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠].
ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسما عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بما لنا من الجلال والكمال (مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين ، قال أبو حيان : وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.
(مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي : من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي : أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به (وَهُدىً) أي : للعامل بها إلى كل خير
__________________
(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠١٧ ، والترمذي في العلم ٢٦٧٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٠٣ ، والدارمي في المقدمة حديث ٥١٢.