يَدْعُونَ) أي : هؤلاء المختوم على مداركهم وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله تعالى : (مِنْ دُونِهِ) أي : غيره (الْباطِلُ) أي : العدم في حدّ ذاته لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يدعون بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب وإن مقطوعة من ما في الرسم (وَأَنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم وحده (هُوَ الْعَلِيُ) على خلقه بالقهر فله الصفات العليا والأسماء الحسنى (الْكَبِيرُ) أي : العظيم في ذاته وصفاته.
ولما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذكر آية سماوية وأشار إلى السبب والمسبب ذكر بعده آية أرضية تدلّ على باهر قدرته وكمال نعمته وشمول إنعامه وأشار إلى السبب والمسبب بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) وفي المخاطب بذلك ما تقدّم (أَنَّ الْفُلْكَ) أي : السفن كبارا وصغارا (تَجْرِي) أي : بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البرّ (فِي الْبَحْرِ) أي : على وجه الماء (بِنِعْمَتِ اللهِ) أي : بإنعام الملك الأعلى المحيط علما وقدرة المحسن إليكم بتعليم صفتها حتى تهيأت لذلك على يد أبيكم نوح العبد الشكور عليهالسلام ، وقيل : نعمة الله هنا هي الريح التي تتحرك بأمر الله (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي : عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر الهائل البديع الرفيع (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على المشاق فيبعث نفسه في التفكير في عدم غرقه وفي مسيره إلى البلاد الشاسعة والأقطار البعيدة ، وفي كون سيره ذهابا وإيابا تارة بريحين ، وتارة بريح واحدة. وفي إنجاء أبيه نوح عليهالسلام ومن أراد الله تعالى من خلقه بها وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض ، وفي غير ذلك من شؤونه وأموره (شَكُورٍ) أي : مبالغ في كل من الصبر والشكر لأنهما الإيمان ، كما ورد : الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدّة إلا من طبعهم الله تعالى على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه ، ولهذا قال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وها أنا أسأل الله الحنان المنان من فضله أن يجعلني منهم ويفعل ذلك بأهلي وأحبابي فإنه كريم جواد.
ولما ذكر تعالى أن في ذلك لآيات ذكر أنّ الكل معترفون غير أنّ البصير يدركه أوّلا ومن في بصيرته ضعف لا يدركه أوّلا كما قال تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي : علاهم وهم في الفلك حتى صار كالمغطي لهم (مَوْجٌ) أي : هذا الجنس وأفرده لشدّة اضطرابه وإتيانه شيئا في أثر شيء متابعا يركب بعضه بعضا كأنه شيء واحد ، وأصله من الحركة والازدحام واختلف في قوله تعالى (كَالظُّلَلِ) فقال مقاتل : كالجبال ، وقال الكلبي : كالسحاب. والظلل جمع ظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، فإن قيل : كيف جعل الموج وهو واحد كالظلل وهو جمع؟ أجيب : بأنّ الموج يأتي منه شيء بعد شيء فلما صاروا إلى هذه الحالة (دَعَوُا اللهَ) أي : مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله عالمين بجميع مضمون الآية السابقة من حقيته وعلوّه وكبريائه وبطلان ما يدعونه من دونه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الدعاء بأن ينجيهم لا يدعون شيئا سواه بأنفسهم ولا قلوبهم لما اضطرّهم إلى ذلك (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) أي : خلصهم من تلك الأهوال (إِلَى الْبَرِّ) نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين وانقسموا قسمين (فَمِنْهُمْ) أي : تسبب عن نعمة الإنجاء أنه كان منهم (مُقْتَصِدٌ) أي : عدل موف في البرّ بما قد عاهد الله عليه في البحر من