ولما نفى أن يكون له وزير أو شريك في الخلق ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه فقال مستأنفا مفسرا للمراد بالاستواء : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي : كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لأحكام فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئا منه إلى أحد من خلقه. قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهاره القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا مقر لمدبر.
ولما كان المقصود للقرب إنما هو تدبير ما يمكن مشاهدتهم له من العالم قال تعالى مفردا : (مِنَ السَّماءِ) أي : فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في إدبار ما يعمله (إِلَى الْأَرْضِ) أي : غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم العلوي ، والأرض تشمل كل ما سفل فيشمل ذلك العالم السفلي.
تنبيه : ههنا همزتان مكسورتان ، فقالون وابن كثير يسهل الأولى كالياء مع المد والقصر ، وورش وقنبل يسهل الثانية ، ولهما إبدالهما من غير مدّ ، وأسقط أبو عمرو الأولى مع المد والقصر والباقون بتحقيقهما.
ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد فكان بذلك مستبعدا ؛ أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ يَعْرُجُ) أي : يصعد (إِلَيْهِ) أي : بصعود الملك إلى الله تعالى أي : إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٠٠] ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير إلى السماء كأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم في أسرع من لمح البصر (فِي يَوْمٍ) أي : من أيام الدنيا (كانَ مِقْدارُهُ) لو كان الصاعد واحدا منكم على ما تعهدون (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) من سنيكم التي تعهدون ، قال البقاعي : والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلا ، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءا ، أو لا يبعد هذا وهو خلق محتاج ، فما ظنّك بمن خلق الخلق في ستة أيام ولو شاء لخلقهم في لمحة ، وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء انتهى.
فنزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو ما بين السماء والأرض فإن مسافته خمسمائة سنة ، فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ، ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة كأنه تعالى يقول : لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعونه في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] فأراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، عليهالسلام فسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك ، وورد أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «بين السماء والأرض خمسمائة عام ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : سماء أخرى أتدرون كم بينها وبينها؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : خمسمائة عام حتى عد سبع سموات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : العرش ثم قال : أتدرون ما بينه وبين السماء