فكأنه قال : أعطاكم السمع ثم أعطاكم ما هو أشرف منه وهو القلب ، وعند السلب قال : ليس لهم قلب يدركون به ولا ما هو دونه وهو السمع الذي يسمعون به ممن له قلب يفهم الحقائق ويستخرجها.
ولما لم يبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : تشكرون شكرا قليلا ، فما مزيدة مؤكدة للقلة.
وقوله تعالى : (وَقالُوا) معطوف على ما سبق منهم فإنهم قالوا : محمد ليس برسول ، والإله ليس بواحد ، والبعث ليس بممكن فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب ، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم ، وختم بالتعجب من كفرهم وكان استبعادهم للبعث الذي هو الثابت الأصل من أعظم كفرهم وهو قولهم (أَإِذا) أي : انبعث إذا (ضَلَلْنا) أي : غبنا (فِي الْأَرْضِ) أي : صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه ، وأصله من ضل الماء في اللبن إذا أذهب فيه ، وقولهم (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : يجدد خلقنا استفهام إنكاري زيادة في الاستبعاد.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها وهو التنزيل الذي لا ريب فيه ، وذكر الوحدانية ، وذكر دليلها وهو خلق السموات والأرض وخلق الإنسان من طين.
ولما ذكر إنكارهم الحشر لم يذكر الدليل؟ أجيب : بأنه ذكر دليله أيضا وهو أن خلقة الإنسان ابتداء دليل على قدرته على الإعادة ، ولهذا استدل تعالى على إنكار الحشر بالخلق الأول ثم يعيده وهو أهون عليه وقوله تعالى : (الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] وأيضا (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كما قال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٨٠] وقرأ نافع والكسائي (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أنا الأول : بالاستفهام والثاني : بالخبر ، وقرأ ابن عامر الأول بالخبر الثاني بالاستفهام ، والباقون بالاستفهام فيهما ، ومذهب قالون وأبي عمرو في الاستفهام تسهيل الثانية وإدخال الألف بينها وبين همزة الاستفهام ، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وهشام يسهل الثانية ويحققها مع الإدخال ، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال. وقوله تعالى (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي : جاحدون إضراب عن الأول أي : ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيا ، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة ، حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب ، أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله ، فإنهم كرهوه فأنكروا المفضي إليه.
ثم بين لهم ما يكون من الموت إلى العذاب بقوله تعالى : (قُلْ) أي : يا أفضل الخلق لهم (يَتَوَفَّاكُمْ) أي : يقبض أرواحكم (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي : بقبض أرواحكم وهو عزرائيل عليهالسلام والتوفي : استيفاء العدد ، معناه : أن يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت ، روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة لليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أنفس الخلق من مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب ، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فتنزع أعوانه روح