(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ)(١) [المسد : ١].
ولما انتفى عنه بهذا ما تخيلوا به بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم يا أشرف الخلق (ما) أي : مهما (سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : على دعائي لكم من الإنذار والتبليغ (فَهُوَ لَكُمْ) أي : لا أريد منه شيئا وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله تعالى أجرا أصلا بوجه من الوجوه فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي ، وأن الداعي أرجح الناس عقلا ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله تعالى الذي له الأمر كله (إِنْ) أي : ما (أَجْرِيَ) أي : ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ) أي : الذي لا أعظم منه فلا ينبغي لذي همة أن يطلب شيئا إلا من عنده (وَهُوَ) أي : والحال أنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : حفيظ مهيمن بليغ العلم بأحوالي فيعلم صدقي وخلوص نيتي ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص أجري في الوصل بفتح الياء ، والباقون بالسكون.
(قُلْ) أي : لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر (إِنَّ رَبِّي) أي : المحسن إليّ بأنواع الإحسان (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) أي : يلقيه إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل إلى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي : ما غاب عن خلقه في السموات والأرض.
تنبيه : في رفع علام أوجه : أظهرها : أنه خبر ثان لأن ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أو بدل من الضمير في يقذف وقال الزمخشري : رفع محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف يعني بقوله محمول على محل إن واسمها النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم ، ويريد بالحمل على الضمير في يقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي ، وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
(قُلْ) لهؤلاء (جاءَ الْحَقُ) أي : الإسلام وقيل : القرآن وقيل : كل ما ظهر على لسان النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل : المعجزات الدالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وقيل : المراد من جاء الحق أي : ظهر الحق لأن كل ما جاء فقد ظهر وأكد تكذيبا لهم في ظنهم أنهم يغلبون بقوله تعالى : (وَما) أي : والحال أنه ما (يُبْدِئُ الْباطِلُ) أي : الذي أنتم عليه من الكفر (وَما يُعِيدُ) أي : ذهب فلم تبق منه بقية مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك ومنه قول عبيد (٢) :
أقفر من أهله عبيد |
|
أصبح لا يبدي ولا يعيد |
والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] وعن ابن مسعود : «دخل النبي صلىاللهعليهوسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ)(٣)
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٠١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠٨ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٦٣.
(٢) البيت من مخلع البسيط ، وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص ٤٥ ، وكتاب العين ٥ / ١٥١ ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٨١ ، وأساس البلاغة (بدأ) ، وجمهرة الأمثال ١ / ٣٥٩ ، والفاخر ص ٢٥١ ، ولسان العرب (قفر).
(٣) أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٧٨ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٨١.