البغوي : قال أكثر المفسرين : كان ذلك الذبح كبشا رعى في الجنة أربعين خريفا ، وقيل : كان وعلا أهبط عليه من ثبير ، وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة.
تنبيه : الذبح مصدر ويطلق على ما يذبح وهو المراد في هذه الآية.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ثناء حسنا ، وقوله تعالى : (سَلامٌ) أي : منا (عَلى إِبْراهِيمَ) سبق بيانه في قصة نوح عليهماالسلام.
(كَذلِكَ) أي : كما جزيناك (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لأنفسهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره.
وقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) فيه دليل على أن الذبيح غيره ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك ، وقوله تعالى (نَبِيًّا) حال مقدرة أي : يوجد مقدرا نبوته ، وقوله تعالى : (مِنَ الصَّالِحِينَ) يجوز أن يكون صفة لنبيا وأن يكون حالا من الضمير في نبيا فتكون حالا متداخلة ، ويجوز أن تكون حالا ثانية ومن فسر الذبيح بإسحق عليهالسلام جعل المقصود من البشارة نبوته ، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ) أي : على إبراهيم عليهالسلام بتكثير ذريته (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهمالسلام فجميع الأنبياء بعده من صلبه إلا نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليهالسلام وفيه إشارة إلى أنه مفرد علم فهو صلىاللهعليهوسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) أي : مؤمن طائع (وَظالِمٌ) أي : كافر وفاسق (لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي : ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب ولا غير ذلك والله أعلم.
القصة الثالثة : قصة موسى وهارون عليهماالسلام المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي : أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
(وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) أي : بني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ) أي : الغم (الْعَظِيمِ) أي : الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم ، وقيل : من الغرق ، والضمير في قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُمْ) يعود على موسى وهارون وقومهما ، وقيل : على الاثنين بلفظ الجمع تعظيما كقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] وقول الشاعر (١) :
فإن شئت حرمت النساء سواكم
(فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي : على فرعون وقومه في كل الأحوال ، أما في أول الأمر فبظهور الحجة ، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة.
تنبيه : يجوز في هم أن يكون تأكيدا ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون فصلا وهو الأظهر.
(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي : المستنير البليغ البيان المشتمل على جميع العلوم
__________________
(١) عجزه :
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
والبيت من الطويل ، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩ ، ولسان العرب (نقخ) ، (برد) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٩٢ ، ولعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ٣١٥ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١ / ٢٤٣ ، وللحارث بن خالد المخزومي في ديوانه ص ١١٧.