والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي. والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد والترغيب في الآخرة ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا عن الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون من قوله : (وَقالَ الْكافِرُونَ) وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشارة إلى أنهم يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ومعاندون لا غافلون وإيذانا بشدة غضبه عليهم وذما لهم على قولهم : (هذا) أي : النذير (ساحِرٌ) أي : فيما يظهره معجزة (كَذَّابٌ) أي : فيما يقول على الله تبارك وتعالى.
(أَجَعَلَ) أي : صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه (الْآلِهَةَ) أي : التي نعبدها (إِلهاً واحِداً) كيف يسع الخلق كلهم إله واحد (إِنَّ هذا) أي : القول بالوحدانية (لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي : بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ونشاهده من أن الواحد لا يفي عمله وقدرته بالأشياء الكثيرة ، وقال البغوي : العجب والعجاب واحد كقولهم : رجل كريم وكرام ، وكبير وكبار ، وطويل وطوال ، وعريض وعراض ، وسبب قولهم ذلك أنه روي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش : ـ وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنا الوليد بن المغيرة ـ اذهبوا إلى أبي طالب ، فأتوا إليه وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إليه فحضر فقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ماذا تسألونني؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، قال : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيكها وعشر أمثالها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقاموا» (١) فقالوا ذلك.
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي : أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي صلىاللهعليهوسلم قولوا لا إله إلا الله (أَنِ امْشُوا) أي : يقول بعضهم لبعض امشوا أي : اذهبوا (وَاصْبِرُوا) أي : اثبتوا (عَلى آلِهَتِكُمْ) أي : على عبادتها ، قال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا أي : أكثروا واجتمعوا ، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ، ومنه الماشية للتفاؤل.
فائدة : الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا.
ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون (إِنَّ هذا) أي : الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم (لَشَيْءٌ يُرادُ) أي : بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه ، وقيل : هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل : إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
(ما سَمِعْنا بِهذا) أي : الذي يقوله محمد من التوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) قال ابن عباس : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث ثلاثة ، وقال مجاهد : يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه (إِنْ) أي : ما (هذا) أي : الذي يقوله (إِلَّا اخْتِلاقٌ) افتعال وكذب.
__________________
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ١ / ١ / ١٣٥.