أوثانكم وأعاد النافي تأكيدا فقال : (وَلا لِلْقَمَرِ) فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : الذي له كل كمال من غير شائبة نقص.
واختلف في عود الضمير في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَهُنَ) على أوجه ؛ أولاها : عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي ، وقيل : يرجع لليل والنهار والشمس والقمر ، قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث ، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن ، وناقشه أبو حيان من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى ، والأفصح أن يقال : الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها ، وأجاب بعضهم : بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث ، وقال البغوي : إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنت.
ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبدا آخر في عبادة سيده قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ) أي : خاصة بغاية الرسوخ (تَعْبُدُونَ) كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر ، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعا لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجودا لهم ، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهمالسلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليهالسلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبّد لعنته إلى يوم القيامة.
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي : أوجدوا التكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم ينزهوا الله تعالى عن الشريك (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي : من الملائكة ، قال الرازي : ليس المراد بهذه العندية : قرب المكان بل كما يقال عند الملك من الجند كذا وكذا ، ويدل عليه قوله تعالى : «أنا عند ظن عبدي بي» (١) ، «وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» (٢)(يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : دائما لقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي : لا يملون ولقوله سبحانه وتعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، فإن قيل : اشتغالهم بهذا العمل على الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال مع أنهم ينزلون إلى الأرض كما قال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] وقال تعالى عن الذين قاتلوا يوم بدر (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥]؟ أجيب : بأن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة.
تنبيه : اختلف في مكان السجدة فقيل : هو عند قوله تعالى : (إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله ، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى (لا يَسْأَمُونَ) وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام.
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه.
(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.