الفرض أي : أن هذا الكافر يقول لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورددت (إِلى رَبِّي) أي : الذي أحسن إلي بهذا الخير الذي أنا فيه (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي : الحالة الحسنى من الكرامة وهي الجنة ، فكما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة ، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال تعالى شأنه : (فَلَنُنَبِّئَنَ) أي : فلنخبرن (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما دلت عليه العقول وصرائح النقول (بِما عَمِلُوا) لا ندع منه كثيرا ولا قليلا صغيرا ولا كبيرا فيرون عيانا ضد ما ظنوه من الدنيا من أن لهم الحسنى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لنوقفهم على مساوي أعمالهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي : بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية كمثاقيل الذر (مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي : شديد لا يدع جهة من أجسامهم إلا أحاط بها.
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا) أي : بما لنا من العظمة (عَلَى الْإِنْسانِ) أي : الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا (أَعْرَضَ) أي : عن التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى (وَنَأى) أي : أبعد بعدا جعل بيننا وبينه حجابا عظيما (بِجانِبِهِ) أي : ثنى عطفه متبخترا (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : هذا النوع قليله وكثيره (فَذُو دُعاءٍ) أي : في كشفه وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس ، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفا إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يفعله إلا أفراد خصهم الله بلطفه (عَرِيضٍ) أي : مديد العرض جدا وأما طوله فلا يسئل عنه ، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة ، تقول العرب أطال فلان الدعاء وأعرض أي : أكثر.
ثم أمر الله تعالى نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهؤلاء المعرضين (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (إِنْ كانَ) أي : هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) أي : من غير نظر واتباع دليل (مَنْ أَضَلُ) منكم هكذا كان الأصل ولكنه قال : (مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) أي : خلاف لأولياء الله تعالى (بَعِيدٍ) أي : عن الحق تنبيها على أنهم صاروا كذلك ومن صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله عزوجل.
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) قال ابن عباس : يعني منازل الأمم الخالية (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي :
بالبلايا والأمراض ، وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر ، وقال مجاهد : في الآفاق ما يفتح الله تعالى من القرى على محمد صلىاللهعليهوسلم وفي أنفسهم فتح مكة ، وقال عطاء : في الآفاق يعني : أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم في آفاق الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وبديع الحكمة في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].
تنبيه : قال النووي في تهذيبه : قال أهل اللغة : الآفاق النواحي ، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء ، وأفق بإسكان الفاء.
ولما كان التقدير ولا نزال نكرر عليهم هذه الدلائل عطف عليه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر (أَنَّهُ) أي : القرآن (الْحَقُ) أي : الكامل في الحقية الذي يطابق الواقع