تعالى؟ أجيب : بأنه يحمل هذا على الرضا بقضاء الله تعالى من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة.
الصفة الخامسة : قوله سبحانه وتعالى : (وَأَقامُوا) أي : أداموا (الصَّلاةَ) الواجبة (وَأَمْرُهُمْ) أي : كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير (شُورى بَيْنَهُمْ) أي : يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين بما لهم من قوة الباطن ولا يعجلون في أمورهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور.
الصفة السادسة ، قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة (يُنْفِقُونَ) أي : يديمون الإنفاق في سبيل الله تعالى كرما منهم ، وإن قل ما بأيديهم اعتمادا على فضل الله تعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين.
(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أي : وقع بهم وأثر فيهم وهو التمادي على الرمي بالشر (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي : ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل : يعني القصاص وهي الجراحات والدماء ، وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله يقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي ، قال سفيان بن عيينة : سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال : إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئا ، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث ، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه ، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل ، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل ، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالما ، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفا ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعا وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول : للعاجز ، والثاني : للمتغلب المتكبر بدليل البغي ، فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين ؛ الأول : أنه لما ذكر قبله (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو (الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ، الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن ، قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وقال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].
أجيب : بأن العفو على قسمين ؛ أحدهما : أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته ، والثاني : أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض روي : «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلىاللهعليهوسلم عنها فلم تنته ، فقال لها النبي صلىاللهعليهوسلم : سبيها» (١). وأيضا فإنه تعالى لم يرغّب في الانتصار بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى : (فَمَنْ
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨٩٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٣٠.