(عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي : تقهرهم على امتثال ما أرسلناك به (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) لما أرسلناك به ، وأما الهداية والإضلال فإلينا ، وهذا كما قال الجلال المحلي : قبل الأمر بالجهاد (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا) أي : بالعظمة التي لا يمكن مخالفتها (الْإِنْسانَ) أي : بما جبلناه عليه من النقص وعدم التمالك (مِنَّا رَحْمَةً) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نوعا من أنواع الإكرام من صحة أو غنى أو نحو ذلك (فَرِحَ بِها) أي : بتلك الرحمة وأفرد ضمير فرح نظرا للفظ الإنسان إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه ، ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ونعمة الله تعالى عليهم ، وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة القطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سميت ذوقا ، فبين تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقصى السعادات ، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وجمع ضمير الإنسان في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) باعتبار معناه (سَيِّئَةٌ) أي : شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : قدموه وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال بها (فَإِنَّ الْإِنْسانَ) أي : الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره (كَفُورٌ) أي : بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى : بإذا ، والثانية : بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة ، فإن كان في نعمة أشر وبطر ، وإن كان في نقمة أيس وقنط ، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال صلىاللهعليهوسلم : «المؤمن إن أصابه سراء شكر فكان خيرا ، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيرا» (١).
لما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى : (لِلَّهِ) أي : الملك الأعظم وحده (مُلْكُ السَّماواتِ) كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها (وَالْأَرْضِ) جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها (يَخْلُقُ) أي : على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار (ما يَشاءُ) وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه ، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاما من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى : (يَهَبُ) أي : يخلق (لِمَنْ يَشاءُ) أولادا (إِناثاً) فقط ليس معهن ذكر (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) فقط ليس معهم أنثى ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضا واوا خالصة ، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضا تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام.
(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي : الأولاد فيجعلهم أزواجا أي : صنفين حال كونهم (ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي : لا يولد له.
__________________
(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٩٩.