وهو أشرف هذه الأقسام أم لا ومن الثاني قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨] (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١٢] (أَوْ) إلا (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي : من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر كما وقع لموسى عليهالسلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من الملائكة إما جبريل عليهالسلام أو غيره.
تنبيه : ذكر المفسرون : أن اليهود قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال : «لم ينظر موسى إلى الله عزوجل فأنزل الله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(١) ، (فَيُوحِيَ) أي : الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه (بِإِذْنِهِ) أي : الله تعالى (ما يَشاءُ) أي : الله عزوجل ، وقرأ نافع برفع اللام من يرسل وسكون الياء من يوحي والباقون بنصب اللام والياء أما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو يرسل ، ثانيها : أنه عطف على وحيا على أنه حال لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال : إلا موحيا إليه أو مرسلا ، ثالثها : أن يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحيا في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل ، والتقدير : إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا.
وأما القراءة الثانية : ففيها ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدر معطوف على وحيا ، والمعنى : إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب أو إرسال رسول ، ولا يجوز أن يعطف على أن يكلمه لفساد المعنى إذ يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا بل يفسد لفظا ومعنى ، وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم ، ثانيها : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحيا ووحيا حال فيكون هذا أيضا حالا والتقدير : إلا موحيا أو مرسلا ، ثالثها : أنه معطوف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل ذكره مكي وأبو البقاء (إِنَّهُ) أي : هذا الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم (عَلِيٌ) أي : بالغ العلو جدا عن صفات المخلوقين (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بواسطة وتارة بغير واسطة إما عيانا وإما من وراء حجاب.
(وَكَذلِكَ) أي : ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل (أَوْحَيْنا) بما لنا من العظمة (إِلَيْكَ) يا أفضل الرسل (رُوحاً) قال ابن عباس : نبوة وقال الحسن : رحمة وقال السدي : وحيا وقال الكلبي : كتابا وقال الربيع : جبريل وقال مالك بن دينار : القرآن ، وسمي الوحي روحا ؛ لأنه مدبر الروح كما أن الروح مدبر للبدن وزاد عظمته بقوله تعالى : (مِنْ أَمْرِنا) أي : الذي نوحيه إليك.
ثم بين تعالى حال نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم قبل الوحي بقوله سبحانه : (ما كُنْتَ) أي : فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك (تَدْرِي) أي : تعرف قبل الوحي إليك (مَا الْكِتابُ) أي : القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) أي : تفصيل الشرايع على ما جددناه لك بما أوحيناه إليك وهو صلىاللهعليهوسلم وإن كان قبل النبوة قد كان مقرا بوحدانية الله تعالى وعظمته ، فإنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه ،
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.