النعمة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) التي هي أدنى الأشياء عندنا وأشار بتأنيثها إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل ، وأما الآخرة فعبر بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتفانوا على ذلك فلم يبق منهم أحد ، فكيف يدخل في الوهم أن نجعل إليهم شيئا من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود وبها سعادة الدارين (وَرَفَعْنا) أي : بما لنا من نفوذ الأمر (بَعْضَهُمْ) وإن كان ضعيف البدن قليل العقل (فَوْقَ بَعْضٍ) وإن كان قويا غزير العقل (دَرَجاتٍ) في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظم حال الوجود ، فإنه لا بد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ففاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم ، ليقتسموا الصنائع والمعارف ويكون كل ميسرا لما خلق له وجانحا لما هيىء لتعاطيه فلم يقدر أحد من دني أو غني أن يعدو قدره ويرتقي فوق منزلته.
ثم علل ذلك بما ثمرته عمارة الأرض بقوله تعالى : (لِيَتَّخِذَ) أي : بغاية جهده (بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي : ليستخدم بعضهم بعضا فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم ؛ لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء ، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا.
قال ابن الجوزي : فإذا كانت الأرزاق بقدر الله تعالى لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة وهذا هو المراد بقوله تعالى : صارفا القول عن مظهر العظمة إلى الوصف بالإحسان إظهارا لشرف النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أي : المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمي غيرها رحمة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا الفاني فإنه وإن تأتّى فيه خير في استعماله في وجوه البر بشرطه فهو بالنسبة إلى النبوة وما قاربها مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش ، وقيل : المراد بالرحمة : الجنة ، وجرى عليه البغوي وتبعه الجلال المحلي وابن عادل ، وجرى على الأول البيضاوي وتبعه البقاعي وهو الظاهر من الآية الكريمة.
فائدة : اتفق القراء هنا على قراءة سخريا بضم السين.
ثم بين تعالى حقارة الدنيا وخستها التي يفتخرون بها بقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) أي : أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم (أُمَّةً واحِدَةً) أي : في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارهم وهممهم إلا من عصمه الله تعالى (لَجَعَلْنا) أي : في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضا لها (لِمَنْ يَكْفُرُ) وقوله تعالى : (بِالرَّحْمنِ) أي : العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها إلا بعد الممقوت ، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لو لا العلة التي ذكرها الله تعالى من الرفق بالمؤمنين وقوله تعالى : (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من لمن بدل اشتمال بإعادة العامل واللامان للاختصاص (سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) قال البقاعي : كأنه خصها أي : الفضة لإفادتها النور ، وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء الموحدة والباقون بكسرها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسقفا بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس ، والباقون بضمها جمعا وقوله تعالى : (وَمَعارِجَ) جمع معرج وهو السلم