ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفا لهم وتسكينا لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى : (يا عِبادِ) فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريف لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين ، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها : أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] والثاني قوله : (لا خَوْفٌ) أي : بوجه من الوجوه (عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي : في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال ، وثالثها : قوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي : لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به ، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفا ووصلا.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتا لعبادي أو بدلا منه أو عطف بيان له أو مقطوعا منصوبا بفعل أي : أعني الذين آمنوا أو مرفوعا وخبره مضمر تقديره يقال لهم : ادخلوا الجنة ، قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا (بِآياتِنا) الظاهرة عظمتها في نفسها أولا وبنسبتها إلينا ثانيا (وَكانُوا) أي : دائما بما هو لهم كالجبلة والخلق (مُسْلِمِينَ) أي : منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى : (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) أي : نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات ، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين (تُحْبَرُونَ) أي : تسرون وتنعمون والحبرة : المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه.
وقوله تعالى : (يُطافُ) قبله محذوف أي : يدخلون يطاف (عَلَيْهِمْ) أي : المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكا (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم ، والصحاف جمع صحفة كجفنة وجفان ، قال الجوهري : الصحفة كالقصعة والجمع صحاف ، قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى : (وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذانا بأنه لا حاجة أصلا إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة عن أذى أو نحو ذلك : وقيل : هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له ، وقيل : إنه لا خرطوم له ، وقيل : إنه لا عروة له ولا خرطوم معا قال الجواليقي : ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي (١) :
متكئا تصفق أبوابه |
|
يطوف عليه العبد بالكوب |
__________________
(١) البيت من السريع ، وهو لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص ٦٧ ، ولسان العرب (كوب) ، (صفق) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٤٠٠ ، وكتاب الجيم ٣ / ١٧٤ ، وتاج العروس (كوب) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب ٣ / ٣١٣.