الكامل في قرآنيته الجامع للأصول الناشر للفروع الذي لا خلل فيه ولا فصم ولا صدع ولا وصم (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي : مظهر الحق من الباطل ، فإن قيل : كيف صح أن يشار لاثنين أحدهما مؤنث والآخر مذكر باسم الإشارة المؤنث ولو قلت تلك هند وزيد لم يجز؟.
أجيب من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ المراد بالكتاب هو الآيات لأنّ الكتاب عبارة عن الآيات المجموعة فلما كانا شيئا واحدا صحت الإشارة إليهما بإشارة الواحد المؤنث ، الثاني : أنه على حذف مضاف أي : وآيات كتاب مبين ، الثالث : أنه لما ولي المؤنث ما تصح الإشارة به إليه اكتفى به وحسن ، ولو ولي المذكر لم يحسن ، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل ، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلا وابتداء وحمزة في الوقف لا غير ، والباقون بغير نقل.
وقوله تعالى : (هُدىً وَبُشْرى) يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما ، أي : يهدي هدى ويبشر بشرى ، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة ، وأن يكونا خبرا بعد خبر ، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر ، أي : هو هدى من الضلالة وبشرى (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ١٧٥] ولهذا خص به المؤمنين ، وقيل المراد بالهدى الدلالة ، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى ، والبشرى إنما تكون للمؤمنين ، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦].
ولما كان وصف الإيمان خفيا وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحا لما بينهم وبين الخالق (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي : إحسانا فيما بينهم وبين الخلائق (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي : يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية ، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر.
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه (بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا) أي : بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها (لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي : القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها ، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ ، وعند المعتزلة بالعكس ، قال الزمخشريّ في تفسيره : إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عزوجل مجاز (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنهم (يَعْمَهُونَ) أي : يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك ، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.
(أُوْلئِكَ) أي : البعداء البغضاء (الَّذِينَ لَهُمْ) أي : خاصة (سُوءُ الْعَذابِ) أي : أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي : أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم.
ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران ، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ صلىاللهعليهوسلم مخاطبا له بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ) أي : وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم