عصاك انتهى. وإنما احتاج إلى تقدير وقيل له ألق لتكون جمله خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها لأنه يرى في العطف تناسب الجمل المتعاطفة ، والصحيح كما قاله أبو حيان : أنه لا يشترط ذلك.
ولما تشوّفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة أجيب : بأنه قيل له (يا مُوسى لا تَخَفْ) أي : منها ولا من غيرها ثقة بي ، ثم علل هذا النهي بقوله تعالى : مبشرا بالأمن والرسالة (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَ) أي : عندي (الْمُرْسَلُونَ) أي : من حية وغيرها لأنهم معصومون من الظلم لا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) فيه وجهان : أحدهما : أنه استثناء منقطع ، لأنّ المرسلين معصومون من المعاصي وهذا هو الصحيح ، والمعنى لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف إلا من تاب كما قال تعالى : (ثُمَّ بَدَّلَ) أي : بتوبته (حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) وهو الظلم الذي كان عمله أي : جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليهالسلام (فَإِنِّي) أرحمه بسبب أني (غَفُورٌ) أي : من شأني أن أمحو الذنوب محوا يزيل جميع آثارها (رَحِيمٌ) أي : أعامله معاملة الراحم البليغ الرحمة ، والثاني : أنه استثناء متصل.
وللمفسرين فيه عبارات : قال الحسن : إنّ موسى ظلم بقتل القبطي ثم تاب فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، وقال غيره : إنّ ذلك محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل ، وقال بعض النحويين : إلا ههنا بمعنى ولا ، أي : لا يخاف لديّ المرسلون ولا المذنبون التائبون كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٠] أي : ولا الذين ظلموا.
ثم أراه الله تعالى بعد هذه الآية آية أخرى ذكرها بقوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي : فتحة ثوبك وهو ما قطع منه ليحيط بعنقك ، وكان عليه مدرعة صوف لا كم لها وقيل : الجيب القميص لأنه يجاب أي : يقطع (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) أي : بياضا عظيما نيرا جدا له شعاع كشعاع الشمس ، وكانت الآية الأولى مما في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني ، وهذه في يده نفسها بقلب عرضها التي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني ، ثم نفى عنها أن يكون ذلك بسبب آفة بقوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : برص ولا غيره من الآفات ، وقوله تعالى (فِي تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف ، وحرف الجرّ فيه متعلق بمحذوف ، والمعنى : اذهب في تسع آيات (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) كقول القائل (١) :
فقلت إلى الطعام فقال منهم |
|
فريق تحسد الإنس الطعاما |
ويجوز أن يكون بمعنى وألق عصاك وأدخل يدك في تسع آيات وعدادهنّ.
ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة آية : ثنتان منها العصا واليد ، والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ، وقيل : في بمعنى من أي : من تسع آيات فتكون العصا واليد من التسع ، ثم علل إرساله إليهم
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لشمر بن الحارث الضبي في لسان العرب (حسد) ، وتاج العروس (حسد) ، والحيوان ٦ / ١٩٧ ، ولسهم بن الحارث في الحيوان ٤ / ٤٨٢ ، ولتأبط شرا في ديوانه ص ٢٥٧ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥٠٢.