وقوله تعالى : (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) مختلف في مكانه فقيل في السماء العليا تحت العرش وقيل : في السماء الثالثة وقيل في السادسة وعلى كل قول هو بحيال الكعبة يقال له : الضراح حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدا ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة وقيل : هو بيت الله الحرام لكونه معمورا بالحجاج والعمار والمجاورين وقيل : اللام في البيت المعمور لتعريف الجنس كأنه تعالى أقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة.
وقوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) مختلف فيه أيضا فالأكثر على أنه السماء كما قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢] وقيل : المراد به سقف الكعبة وقيل : سقف الجنة وهو العرش ونقل عن ابن عباس.
وقوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) من الأضداد يقال بحر مسجور أي مملوء وبحر مسجور أي فارغ وروى ذو الرمّة الشاعر عن ابن عباس أنه قال خرجت أمة لتستقي فقالت إنّ الحوض مسجور أي فارغ ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظي يعني بالمسجور الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس لما روي أنه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] وعن علي أنه سأل يهوديا أين موضع النار في كتابكم قال : في البحر قال علي : ما أراه إلا صادقا لقوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ،) وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يركبن البحر رجل إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا فإنّ تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» (١) وقال الربيع بن أنس المختلط العذب بالملح. وروى الضحاك عن المنزل بن سمرة عن علي أنه قال : البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم وهذا قول مقاتل. فإن قيل : ما الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء؟ أجيب : بأنّ هذه الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله تعالى ، أمّا الطور فانتقل إليه موسى عليهالسلام وخاطب الله سبحانه وتعالى هناك ، وأمّا البيت المعمور فانتقل إليه محمد صلىاللهعليهوسلم وقال لربه سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، وأمّا البحر المسجور فانتقل إليه يونس عليهالسلام ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها. وأمّا ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم مع الله تعالى في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب.
تنبيه : أقسم الله تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات : ١] و (الْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١] و (وَالنَّازِعاتِ) [النازعات : ١] وفي بعضها بإفراد كقوله تعالى (وَالطُّورِ) ولم يقل والأطوار والأبحار قال الرازي والحكمة فيه أنّ في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحرّكات
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٤٨٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٣٤ ، ٦ / ١٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٢٨٢.