مأمون العاقبة وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنويعهما وكثرتهما. وقوله تعالى (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منة لي عليكم اليوم وإنما منتي عليكم كانت في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] وأمّا اليوم فلا منة عليكم لأنّ هذا إنجاز الوعد.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان وإن لم يبالغوا في الأعمال الصالحة مبتدأ وقرأ أبو عمرو وأتبعناهم أي بما لنا من الفضل الناشىء عن العظمة بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية وسكون العين وبعد العين نون مفتوحة بعدها ألف والباقون بهمزة وصل محذوفة وتشديد التاء الفوقية وفتح العين وبعدها تاء فوقية ساكنة وهو معطوف على آمنوا (ذُرِّيَّتُهُمْ) أي : الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم ، فإنّ الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد أبويه (بِإِيمانٍ) أي بسبب إيمان حاصل منهم ولو كان في أدنى درجات الإيمان ولكنهم ثبتوا عليه إلى أن ماتوا وذلك شرط اتباعهم الذريات قال البقاعي : ويجوز أن يراد وهو أقرب بسبب إيمان الذرّية حقيقة إن كانوا كبارا أو حكما إن كانوا صغارا ، ثم أخبر عن الموصول المبتدأ بقوله تعالى : (أَلْحَقْنا بِهِمْ) تفضلا منا عليهم (ذُرِّيَّتُهُمْ) وإن لم يكن للذرّية أعمال لأنه (١) :
لعين تجازى ألف عين وتكرم
والذريات هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء وإنّ المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا وهو منقول عن ابن عباس وغيره ، ويلحق بالذرّية من النسب الذرّية بالسبب وهو المحبة فإن كان معها أخذ لعلم أو عمل كانت أجدر فتكون ذرية الإفادة كذرّية الولادة وذلك لقوله صلىاللهعليهوسلم : «المرء مع من أحبّ» (٢) في جواب من سأل عمن يحب القوم ولما يلحق بهم ، وقرأ (ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) وألحقنا بهم ذرياتهم نافع بالقصر في الأولى والجمع في الثانية مع كسر التاء ، وقرأ ابن كثير والكوفيون بالقصر فيهما مع ضم التاء ، وقرأ أبو عمرو بالجمع فيهما مع كسر التاء ، وقرأ ابن عامر بالجمع فيهما إلا أنه يرفع التاء في الأولى ويكسرها في الثانية.
فإن قيل : قوله تعالى أتبعناهم ذرياتهم يفيد فائدة قوله تعالى ألحقنا بهم ذرياتهم أجيب بأنّ قوله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ) أي في الدرجات والإتباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما مرّ ثم أشار إلى عدم نقصان المتبوع بقوله تعالى (وَما أَلَتْناهُمْ) أي : ما نقصنا المتبوعين (مِنْ عَمَلِهِمْ) وأكد النفي بقوله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) أي : بسبب هذا الإلحاق.
ولما بين تعالى اتباع الأدنى للأعلى في الخير ، بين أنّ الأدنى لا يتبع الأعلى في الشرّ بقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ) من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم (بِما كَسَبَ) أي : عمل من خير أو شرّ (رَهِينٌ) أي : مرهون يؤخذ بالشر ويجازى بالخير وقال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك
__________________
(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١٦٨ ، ومسلم في البر حديث ٢٦٤١ ، وأبو داود في الأدب حديث ٥١٢٧ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٥ ، ٢٣٨٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٢ ، ٣ / ١٠٤ ، ١١٠ ، ١٥٩ ، ٢٠٠ ، ٢١٣ ، ٢٢٢ ، ٢٢٨ ، ٢٦٨.