هؤلاء أنفسهم ظنا منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلا منهم ، وعدم اكتراث بالعواقب.
ولما انقضت قصة لوط عليهالسلام أتبعها قصة موسى عليهالسلام لأنها بعد قوم لوط ؛ بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ) أي : فرعون ملك القبط بمصر ؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه ، وتخلقهم بأخلاقه (النُّذُرُ) أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهماالسلام ؛ فلم يؤمنوا بل (كَذَّبُوا) أي : تكذيبا عظيما مستهزئين (بِآياتِنا) التي أتاهم بها موسى عليهالسلام (كُلِّها) أي : التسع التي أوتيها وهي : العصا ، واليد ، والسنين ، والطمس ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.
فإن قيل كيف قال : (وَلَقَدْ جاءَ) ولم يقل في غيره جاء؟ أجيب : بأنّ موسى عليهالسلام لما جاء كان غائبا عن القوم ، فقدم عليهم كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٦١] وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور ؛ والنذر : الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليهالسلام ، وقيل : النذر : الإنذارات
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون : بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية ؛ ولهما أيضا إبدالها ألفا وورش على أصله في الهمزة المسهلة ؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان ، والباقون بالفتح ؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفا مع المدّ والتوسط والقصر ؛ (فَأَخَذْناهُمْ) أي : بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق (أَخْذَ عَزِيزٍ) أي : لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء (مُقْتَدِرٍ) أي : لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقبا لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه.
ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ) أي : الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه ، يا أيها المكذبون ، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه (خَيْرٌ) في الدنيا بالقوة والكثرة ، أو في الدين عند الله أو عند الناس (مِنْ أُولئِكُمْ) أي : المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
تنبيه : قوله تعالى : (خَيْرٌ) مع أنّه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان (١) :
فشر كما لخير كما الفداء
أو هو بحسب زعمهم واعتقادهم ؛ أو المراد بالخير شدّة القوّة ؛ أو لأنّ كل ممكن فلا بدّ وأن يكون له صفات محمودة ، فالمراد تلك الصفات (أَمْ لَكُمْ) أي : يا أهل مكة (بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي : أنزل إليكم من الكتب السماوية أنّ من كفر منكم فهو في أمان من عذاب الله تعالى والاستفهام هنا أيضا بمعنى النفي أي ليس الأمر كذلك.
__________________
(١) صدره :
أتهجوه ولست له بندّ
والبيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧٦ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٢ ، ٢٣٧ ، وشرح الأشموني ٧ / ٣٨٨ ، ولسان العرب (ندد) ، (عرش).