(١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))
(الرَّحْمنُ) (عَلَّمَ) أي : من شاء (الْقُرْآنَ) وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم ، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله تعالى رتبة ، وأعلاها منزلة ، وأحسنه في أبواب الدين أثرا ؛ وهو سنام الكتب السماوية ، ومصداقها والعيار عليها.
تنبيه : أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأنّ آخر تلك مليك مقتدر ، وأوّل هذه أنه رحمن. قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي : الرحمن : فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى الر ، وحم ، ون ، فيكون مجموع هذه الرحمن. ولله تبارك وتعالى رحمتان : رحمة سابقة بها خلق الخلق ؛ ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمن باعتبار السابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره رحمن ولما خلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطاقة البشرية فأطعم ونفع جاز أن يقال له : رحيم.
وفي إعراب الرحمن ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر أي الله الرحمن الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر أي الرحمن ربنا. الثالث : أنه مبتدأ خبره علم القرآن ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أجيب بأنا إن قلنا بعطف الراسخين على الله فهو ظاهر ، وإن قلنا بالوقف على الله ويبتدأ بقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ) [آل عمران : ٧] فلأن من علم كتابا عظيما فيه مواضع مشكلة قليلة وتأمّلها بقدر الإمكان فإنه يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه بخلاف الكتب التي تستخرج بقوة الذكاء والفكر.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أكثر المفسرين : نزلت حين قالوا : وما الرحمن ، وقيل : نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ؛ فأنزل الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : سهله ليذكر ويقرأ ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧].
ولما كان كأنه قيل كيف يعلمه وهو صفة من صفاته ، ولمن علمه قال تعالى مستأنفا أو معللا (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : الجنس بأن قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلا عن جميع الجمادات ، وأصله منها ثم عن سائر الناميات ، ثم عن غيره من الحيوانات ، وخلقه له دليل على خلقه لكل شيء موجود (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] وقيل علم القرآن جعله علامة.
وآية (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية ، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر ، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره : تارة بالقول وتارة بالفعل ، نطقا وكتابة وإشارة وغيرها ، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن ، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : يعني آدم عليهالسلام علم أسماء كل شيء ، وقيل : علمه اللغات كلها وكان