قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً) منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى : (ابْتَدَعُوها) قال أبو علي : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه ، وقيل : إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة ، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية ، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب ، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك فيها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفا زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران.
روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال : في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلىاللهعليهوسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا ؛ قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى عليهالسلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقي بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة : الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال.
وقوله تعالى : (ما كَتَبْناها) صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك ، قال ابن زيد : معناه ما فرضناها (عَلَيْهِمْ) ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي : الملك الأعظم استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، وقيل : متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى : قضى فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي : ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم (فَآتَيْنَا) أي : بما لنا من صفات الكمال (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي : اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا (فاسِقُونَ) أي : عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليهالسلام ، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال : «دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليهالسلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عزوجل : وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» ثم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق