بالذكر ، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.
قال القرطبي : وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به ، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك ، وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث
ولما نهى المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : الذين اتصفوا بهذا الوصف (إِذا قِيلَ لَكُمْ) أي : من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته (تَفَسَّحُوا) أي : توسعوا أي : كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع (فِي الْمَجالِسِ) أي : الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلسا يجلس فيه ، قال قتادة ومجاهد : «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض» (١) ، وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت» (٢). فيكون كقوله تعالى : (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] وقال مقاتل «كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين ، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا قبل النبيّ صلىاللهعليهوسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام ، وعرف النبيّ صلىاللهعليهوسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» (٣) فنزلت الآية يوم الجمعة
وروي عن ابن عباس قال : «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلىاللهعليهوسلم للوقر أي : الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم : بفتح الجيم وألف بعدها جمعا لأنّ لكل جالس مجلسا أي : فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا ، قال البغوي : لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم.
وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلىاللهعليهوسلم : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩٦.
(٣) انظر القرطبي في تفسيره ١٧ / ٢٩٦.