المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال : السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها
ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمّل بقوله تعالى : (يا أُولِي الْأَبْصارِ) بالنظر بأبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع ، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه ، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين ، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.
(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) أي : فرض فرضا حتما الملك الذي له الأمر كله (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي : الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق ، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك الجلاء ، وجعله على يده صلىاللهعليهوسلم فأجلاهم ، فذهب بعضهم إلى خيبر ، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة
تنبيه : قال الماوردي : الجلاء أخص من الخروج ، لأنه لا يقال إلا للجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره : الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك (لَعَذَّبَهُمْ) أي : بالقتل والسبي (فِي الدُّنْيا) كما فعل بقريظة من اليهود (وَلَهُمْ) أي : على كل حال أجلوا أو تركوا (فِي الْآخِرَةِ) التي هي دار البقاء (عَذابُ النَّارِ) وهو العذاب الأكبر.
(ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا ، ويفعله بهم في الآخرة (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) أي : الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه ، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعد ما كانوا الموادعين (وَ) شاقوا (رَسُولَهُ) أي : الذي إجلاله من إجلاله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) أي : يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال (فَإِنَّ اللهَ) أي : المحيط بجميع العظمة (شَدِيدُ الْعِقابِ) وذلك كما فعل بعد هذا حيث نقضوا عهدهم وأظهروا المشاقة في غزوة الأحزاب وكما فعل بأهل خيبر بأهل خيبر.
وقوله تعالى : (ما) شرطية في موضع نصب بقوله تعالى : (قَطَعْتُمْ) وقوله تعالى : (مِنْ لِينَةٍ) بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى : (مِنْ لِينَةٍ) فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقا ، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة (١) : [من الطويل]
كان قتودي فوقها عش طائر |
|
على لينة سوقاء تهفو جنوبها |
وقال الزهري : هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية ، وقال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة ، والعتيق : الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان : هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون ، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضرس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٧٠٢.