أكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب قائما أو قاعدا فقال : أما تقرأ (وَتَرَكُوكَ قائِماً) وعن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائما يفصل بينهما بجلوس» (١) وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا لفضلهم أن لا يفعلوا ، فقال : حدثنا محمد بن خالد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلىاللهعليهوسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له : دحية بن خليفة قدم بتجارة ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقدم النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الجمعة وأخر الصلاة ، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلىاللهعليهوسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلىاللهعليهوسلم ثم يشير إليه بيده ، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستترا به حتى يخرج فأنزل الله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) [النور : ٦٣] الآية» (٢). قال السهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يوجب أن يكون صحيحا وقال قتادة : وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير ، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ) أي : تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلا ، قال جابر : أنا أحدهم (قائِماً) جملة حالية من فاعل انفضوا ، وقد مقدرة عند بعضهم.
تنبيه : في قوله تعالى : (قائِماً) تنبيه على مشروعيته في الخطبتين ، وهو من الشروط للقادر على القيام ، وأما أركانهما فخمسة : حمد الله تعالى ، وصلاة على النبي صلىاللهعليهوسلم بلفظهما ، ووصية بتقوى الله ، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين ، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى ، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية ، ومن الشروط كونهما عربيتين ، وكونهما في الوقت ، وولاء ، وطهر ، وستر كالصلاة (قُلْ) يا أشرف الخلق للمؤمنين (ما عِنْدَ اللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (خَيْرٌ) ما موصولة مبتدأ وخير خبرها (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) والمعنى : ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم ، وفائدة تجارتكم. وقيل : ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم (وَاللهُ) أي : ذو الجلال والإكرام وحده (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه ، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» (٣) حديث موضوع.
__________________
(١) أخرجه النسائي في الجمعة حديث ١٤١٦ ، والدارمي في الصلاة حديث ١٥٥٨.
(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ١١١.
(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٣٩.