(وَاللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (يَشْهَدُ) شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن (إِنَّ الْمُنافِقِينَ) أي : الراسخين في وصف النفاق (لَكاذِبُونَ) أي : في إخبارهم عن أنفسهم إنهم يشهدون ، لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك ، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه وسره بعلانيته ، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه الله تعالى كذبا لأن قولهم خالف اعتقادهم.
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) أي : كلها من شهادتهم وكل يمين سواها (جُنَّةً) أي : سترة عن أموالهم ودمائهم ، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكذبني ، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي ، فأنزل الله عزوجل (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) وقوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إلي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال : «إن الله قد صدقك» (١) وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال : «غزونا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء ، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه ، فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ، ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، يعني : الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند الطعام ، فقال عبد الله : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد : وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحلف وجحد ، قال : فصدقه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكذبني قال : فجاء عمي إلي فقال : ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكذبك المنافقون ، قال : فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد ، قال : فبينما أنا أسير مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر قد خفقت رأسي من الهمّ ؛ إذ أتاني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعرك أذني ، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قلت : ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال : أبشر ثم لحقني عمر فقلت له : مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم سورة المنافقين» (٢) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وروي «أنه صلىاللهعليهوسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٠٠ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣١٢.
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣١٣.