غيرهم على الإعراض (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه ، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا) أي : جبلة وطبعا (يَعْمَلُونَ) أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، وخلص عباده بالأيمان الخائنة.
ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : سوء عملهم (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا.)
فإن قيل : إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله تعالى : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟) أجيب : بثلاثة أوجه :
أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا أي : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك ، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقا ، فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات ، ونحوه قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا ، ونحوه (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [التوبة : ٦٦].
والثاني : آمنوا أي : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٤] إلى قوله (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار.
الثالث : أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا (فَطُبِعَ) أي : فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه (عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنهم (لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء ، فهم لا يميزون صوابا من خطأ ، ولا حقا من باطل.
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ) أي : أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة ، أو أيها الرائي كائنا من كان بعين البصر (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لضخامتها وصباحتها ، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم ، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق.
قال ابن عباس : كان ابن أبيّ جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان ، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم ويستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم (وَإِنْ يَقُولُوا) أي : يوجد منهم قول في وقت من الأوقات (تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي : لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر (كَأَنَّهُمْ) أي : في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم ، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء (خُشُبٌ) جمع كثرة لخشبة ، وهو دليل على كثرتهم (مُسَنَّدَةٌ) أي : قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين ، والباقون بضمها (يَحْسَبُونَ) أي : لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم (كُلَّ صَيْحَةٍ) أي : من نداء مناد في إنشاد ضالة ، أو انفلات دابة ، أو نحو ذلك واقعة (عَلَيْهِمْ) وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل (١) :
__________________
(١) البيت من الكامل ،وهو لجرير في ديوانه ص ٥٣ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٢٥،والعقد الفريد ٣/١٣٢.