وقوله تعالى : (وَيَقْبِضْنَ) عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه ، أي : وقابضات فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا) [الحديد : ١٨] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقال أبو حيان : وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ) [العاديات ، الآيات : ٣ ـ ٤] عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن فأثرن ، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلا عند السهيلي فإنه قبيح ، وقال الزمخشري : (صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا (وَيَقْبِضْنَ) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت : لم قال : (وَيَقْبِضْنَ) ولم يقل قابضات؟ قلت : لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح ، ا ه.
وقال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف ، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه :
قابض ، لأنه يقبضهما. وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا أوقفن عن الطيران. (ما يُمْسِكُهُنَ) أي : عن الوقوع في حال البسط والقبض (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي : الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة هيأهن للجري في الهواء. (إِنَّهُ) أي : الرحمن سبحانه (بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي : بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها فمهما أراد كان. والمعنى : أو لم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
وقوله تعالى : (أَمَّنْ) مبتدأ ، وقوله تعالى : (هذَا) خبره ، وقوله تعالى : (الَّذِي) بدل من هذا ، وقوله تعالى : (هُوَ جُنْدٌ) أي : أعوان (لَكُمْ) صلة الذي ، وقوله تعالى : (يَنْصُرُكُمْ) صفة جند (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي : غيره يدفع عنكم عذابه ، أي : لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جند لكم ، أي : حزب ومنعة لكم ولفظ الجند يوحد ولذلك قال تعالى : (هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) وهو استفهام إنكاري ، أي : لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن ، أي : من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء ، وللدوري اختلاس الضمة أيضا والباقون بالرفع (إِنِ الْكافِرُونَ) أي : ما الكافرون (إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي : من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.
قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون النبي صلىاللهعليهوسلم معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بمالهم وعددهم. والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات ، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ) الآية ، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) أي : على سبيل التجدد والاستمرار (إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر ، ولو كان الرزق موجودا وكثيرا وسهل التناول فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي : فمن يرزقكم ، أي : لا رازق لكم غيره ، (بَلْ لَجُّوا) أي : تمادوا سفاهة لا احتياطا وشجاعة.