(وَما يَسْطُرُونَ) أي : الملائكة من الخير والصلاح ، وقيل : وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، وقيل : ما يكتبون ، أي : الناس ويتفاهمون به ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ومعنى (وَما يَسْطُرُونَ :) وما يعملون ، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة ، وقال البقاعي : وما يسطرون ، أي : قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم.
وقوله تعالى : (ما أَنْتَ) أي : يا أعلى المتأهلين لخطابنا (بِنِعْمَةِ) أي : بسبب إنعام (رَبِّكَ) أي : المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة (بِمَجْنُونٍ) جواب القسم ، وهو نفي ، قال الزجاج : أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال : أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ، وقال البغوي : ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون ، أي : إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة ، وقيل : بعصمة ربك ، وقيل : هو كما يقال : ما أنت بمجنون والحمد لله ، وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك كقولهم : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أي : والحمد لك.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أنه صلىاللهعليهوسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غبارا ، فقالت له : ما لك فذكر جبريل عليهالسلام وأنه قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] فهو أول ما نزل من القرآن قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمدا فأرسلته ، فقال : هل أمرك جبريل عليهالسلام أن تدعو أحدا ، قال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ثم مات قبل دعاء الرسول صلىاللهعليهوسلم» (١) ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه مجنون ، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة.
وقال ابن عباس : أول ما نزل قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي ، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلىاللهعليهوسلم مجنون به شيطان وهو قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] ، أي : برحمة ربك والنعمة ههنا الرحمة ، وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة ، وقال القرطبي : يحتمل أن النعمة ههنا قسم تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم.
وقال الرازي : إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث :
__________________
(١) أخرجه ابن راهويه في مسنده ٢ / ٣١٦.