الكفار بالحديبية رجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين فأنزل الله قوله تعالى : لَقَدْ صَدَقَ اللهُ» أي : الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال (رَسُولَهُ) الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله (الرُّؤْيا) التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّا كبيرا. فحذف الجار وأوصل الفعل. كقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري «قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس قالوا : أوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : فخرجنا نرجف فوجدنا النبيّ صلىاللهعليهوسلم واقفا على راحلته على كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده» (١) ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى (بِالْحَقِ) فيه أربعة أوجه.
أحدها : أنه يتعلق بصدق. ثانيها : أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض. ثالثها : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق. رابعها : أنه قسم وجوابه (لَتَدْخُلُنَ) أي بعد هذا دخولا قد تحتم أمره (الْمَسْجِدَ) أي : الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم (الْحَرامَ) أي : الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم. قال الزمخشري : وعلى تقديره قسما إمّا أن يكون قسما بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وإمّا أن يكون قسما بالحق الذي هو نقيض الباطل.
فإن قيل : ما وجه دخول (إِنْ شاءَ اللهُ) أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه : أحدها : أنه تعالى ذكره تعليما لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤].
ثانيها : أن يريد لتدخلنّ جميعا إن شاء الله. ولم يمت منكم أحد.
ثالثها : أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله.
رابعها : إنها حكاية ما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه وقص عليهم. وقال أبو عبيدة : إن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. كقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة : ٩].
خامسها : إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء واقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله صلىاللهعليهوسلم عند دخول المقبرة «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٢) فالاستثناء
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٧٣٦.
(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٩ ، والجنائز حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، وأبو داود في الجنائز باب ٧٩ ، والنسائي في الطهارة باب ١٠٩ ، والجنائز باب ١٠٣ ، وابن ماجه في الجنائز باب ٣٦ ، والزهد باب ٣٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٠ ، ٣٧٥ ، ٤٠٨ ، ٥ / ٣٥٣ ، ٣٦٠ ، ٦ / ٧١ ، ٧٦ ، ١١١ ، ١٨٠ ، ٢٢١.