بالصبر ولا يعجل. (وَلا تَكُنْ) أي : ولا يكن حالك يا أشرف الخلق في الضجر والعجلة (كَصاحِبِ) أي : كحال صاحب (الْحُوتِ) وهو يونس عليهالسلام.
وقوله تعالى : (إِذْ) منصوب بمضاف محذوف ، أي : ولا يكن حالك كحاله أو قصتك حين (نادى) أي : ربه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة اللجج (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ،) ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي إنما ينصب على أحوالها وصفاتها ، وقوله تعالى : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) جملة حالية من الضمير من نادى والمكظوم الممتلئ حزنا أو غيظا ، ومنه كظم السقاء إذا ملأه ، قال ذو الرمة (١) :
وأنت من حب ميّ مضمر حزنا |
|
غالي الفؤاد قريح القلب مكظوم |
وقال القرطبي : ومعنى وهو مكظوم ، أي : مملوء غما. وقيل : كربا فالأول قول ابن عباس ومجاهد ، والثاني : قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي : والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس. وقيل : مكظوم : محبوس ، والكظم : الحبس. ومنه قولهم : كظم غيظه ، أي : حبس غضبه. والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه.
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال تعالى : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ) أي : أدركه إدراكا عظيما (نِعْمَةٌ) أي : عظيمة جدا.
تنبيه : حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه.
(مِنْ رَبِّهِ) أي : الذي أحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة. وقال الضحاك : النعمة هنا النبوة ، وقال ابن جبير : عبادته التي سلفت ، وقال ابن زيد : نداؤه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ،) وقال ابن بحر : إخراجه من بطن الحوت. وقوله تعالى : (لَنُبِذَ) أي : لو لا هذه الحالة السنية التي أنعم الله تعالى عليه بها لطرح طرحا هينا جدا (بِالْعَراءِ) أي : الأرض القفراء الواسعة التي لا بناء فيها ولا جبال ولا نبات ، البعيدة عن الإنس جواب لو لا. وقيل : جوابها مقدر ، أي : لو لا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت (وَهُوَ) أي : والحال أنه (مَذْمُومٌ) أي : ملوم على الذنب. وقيل : مبعد من كل خير. وقال الرازي : وهو مذموم على كونه فاعلا للذنب ، قال : والجواب من ثلاثة أوجه : الأول : إن كلمة لو لا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني : لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل ، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى : (فَاجْتَباهُ) أي : اختاره لرسالته (رَبُّهُ) والفاء للتعقيب ، قيل : إن هذه الآية نزلت بأحد حين حلّ برسول الله صلىاللهعليهوسلم ما حل ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا ، وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف.
ثم سبب عن اجتبائه قوله تعالى : (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة ، وصلح بهم غيرهم فنبذ حينئذ بالعراء وهو محمود. قال ابن عباس : ردّ الله تعالى إليه الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره ، فمن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجرا من أجره وأنت كذلك فأنت أشرف العالمين.
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو في ديوان ذي الرمة ص ٣٨٩.