وقدرتنا. وقوله تعالى : (وَمَنْ قَبْلَهُ) قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة ، أي : ومن عنده من أتباعه ، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف ، أي : ومن تقدمه من الأمم الكافرة (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي : أهلكها وهي قرى قوم لوط ، أي : المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب (بِالْخاطِئَةِ ،) أي : بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق.
ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسببا عن مجيئهم بذلك موحدا في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس : (فَعَصَوْا) أي : خالفوا (رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغترارا بإحسانه ، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر ، وسبب عن العصيان قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمْ) أي : ربهم ، أخذ قهر وغضب (أَخْذَةً) لم تبق من أمة منهم أحدا ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لا بدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب ، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه (رابِيَةً) أي : عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه : الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى ، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار ، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو.
ثم ذكر تعالى قصة نوح عليهالسلام وهي قوله تعالى : (إِنَّا) أي : على عظمتنا (لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي : زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليهالسلام به ، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال صلىاللهعليهوسلم : «طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه» (١). قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «طغى الماء زمن نوح عليهالسلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج ، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم» (٢). والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى : (حَمَلْناكُمْ) أي : في ظهور آبائكم (فِي الْجارِيَةِ) أي : السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق ، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليهالسلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك ، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الرحمن :
__________________
(١) انظر الطبري في تفسيره ٢٩ / ٥٠.
(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٦٣.