في قوله تعالى : (بِما أَسْلَفْتُمْ) سببية وما مصدرية أو اسمية ، أي : بما قدّمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي : الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها ، وعن مجاهد رضي الله عنه : أيام الصيام ، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي : يقول الله تعالى : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقا إلى حاله ، وتغبيطا بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيرا عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي : صحيفة حسابه (بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) أي : لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها (يا لَيْتَنِي) تمنيا للمحال (لَمْ أُوتَ) أي : من أي مؤت ما. (كِتابِيَهْ) أي : هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. (وَلَمْ) أي : ويا ليتني لم (أَدْرِ ما) حقيقة (حِسابِيَهْ) من ذكر العمل وذكر جزائه ، بل استمريت جاهلا لذلك كما كنت في الدنيا.
ثم يتمنى الموت ويقول : (يا لَيْتَها) أي : الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة (كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي : القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها ، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه : يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشر من الموت ما يطلب منه الموت ، قال الشاعر (١) :
وشر من الموت الذي إن لقيته |
|
تمنيت منه الموت والموت أعظم |
والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) يجوز أن يكون نفيا تأسفا على فوات ما كان يرجو من نفعه ، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال ، أي : أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي : ملكي وتسلطي على الناس ، وبقيت فقيرا ذليلا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد ، وعن فناخسرو الملقب بالعضد ، إنه لما قال (٢) :
عضد الدولة وابن ركنها |
|
ملك الأملاك غلاب القدر |
لم يفلح بعده وجنّ ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي ، ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
ولما كان كأنه قيل : هذا ما قال فما يقال له؟ أجيب : بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد (خُذُوهُ) أي : أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم (فَغُلُّوهُ) أي : اجمعوا يديه
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) البيت لم أجده.