هو متهيىء لها واقف في انتظارها ، وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع اعتبارا بتعدد الأنواع والباقون بغير ألف على التوحيد إذ المراد الجنس. قال الواحديّ : والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإنّ أضيف إلى الجمع كصوت الحمير. قال أكثر المفسرين : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد ، يقومون بها عند الحكام ولا يكتمونها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بشهادتهم أنّ الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي : من الفرض والنفل (يُحافِظُونَ) أي : يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم ويسابقون غيرهم في حفظها ، وتقدم أنّ المداومة غير المحافظة ، فدوامهم عليها محافظتهم على أوقاتها وشروطها وأركانها ومستحباتها في ظواهرها وبواطنها من الخشوع والمراقبة وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ناهية لفاعلها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها ذكره القرطبي.
ولما ذكر تعالى خلالهم أتبعه ما أعطاهم ، فقال عز من قائل مستأنفا أو منتجا من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة : (أُولئِكَ) أي : الذين في غاية العلوّ لما لهم من الأوصاف العالية (فِي جَنَّاتٍ) أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلا ، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور ، وضدها النار. وزادهم على ذلك بقوله تعالى : (مُكْرَمُونَ) معبرا باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره ، لأنه سبحانه قضى بأن يعلي مقدارهم فيكرمهم بأنواع الكرامات فيتلقاهم بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى دخولهم إلى قصورهم هذا حال المؤمنين.
وأما حال الكافرين فقال الله تعالى في حقهم : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام ، ووقف الباقون على اللام ، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي : أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم (قِبَلَكَ) أي : نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك (مُهْطِعِينَ) أي : مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك ، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه (عَنِ) أي : متجاوزين إليك مكانا عن جهة (الْيَمِينِ) أي : منك حيث يتيمنون به (وَعَنِ الشِّمالِ) أي : منك وإن كانوا يتشاءمون به ، وقوله تعالى : (عِزِينَ) حال من الذين كفروا ، وقيل : من الضمير في مهطعين فتكون حالا متداخلة ، أي : جماعات جماعات وحلقا حلقا متفرقين فرقا شتى أفواجا لا يتمهلون ليأتوا جميعا. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون ، قال الكميت (١) :
ونحن وجندل باغ تركنا |
|
كتائب جندل شتى عزينا |
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو للكميت في ديوانه ٢ / ١٣٢ ، ولسان العرب (عزا).